يومان فقط فصلا رحيل ملحم عماد (1939 -2017) عن غياب ستافرو جبرا (1947 -2017). يومان يختصران زمنين، وخطين سياسيين متناقضين، استطاعا بجمعهما أن يعبّرا عن فنّ الكاريكاتور اللبناني، وتوظيفه في المنحى الإيديولوجي والسياسي الذي يرتئيه صاحبه. رحل ملحم عماد الغائب عن مساحة النجومية، والمتعمق أكثر في القضايا العربية، والمعبّر عن أوجاع اللبنانيين، تاركاً إنتاجاً غزيراً في فنّ الكاريكاتور، وبصمة خالدة خطّها من مصر إلى لبنان (راجع المقال أدناه). وأمس، انطفأ ستافرو جبرا (1947) عن سبعين عاماً، قضى منها أكثر من أربعين عاماً، كرسام لبناني بارز من جيل الزمن الذهبي لفنّ الكاريكاتور اللبناني، وأيضاً كمصوّر وموثّق للحرب الأهلية في لبنان، وكاسم لامع عالمياً، بعدما تأثر بالكاريكاتور الغربي، ولا سيما الفرنسي، في بداياته ــ قبل السبعينيات ــــ وكرجل عرف كيف يحاور العقل الغربي، برسوماته، التي خرجت من إطارها المحلي، ولعبت على اللغات الثلاث: العربية، الإنكليزية، والفرنسية، لتتصدّر كبريات الصحف والوكالات العالمية.
عام 1966، بدأ مشوار جبرا في عالم الكاريكاتور والتصوير. عن عمر مبكر، نشر رسوماته في جريدة «المحرّر»، وبعدها أقام معرضاً في دار orient، تضمن رسوماً للشخصيات السياسية. تأثر بمجلات الرسوم المصورة كـ «ميكي ماوس»، و«تان تان وميلو»، التي كان يجلبها له والده. شرع في تقليد هذه الرسوم، ليأخذ بعدها خطوطه ويتنقل بين الصحافة الورقية، والمطبوعات الأسبوعية والشهرية، ويدخل عالم التلفزيون من cvn إلى «الجديد» في النشرات الإخبارية. تجربة فريدة اختبرت الرسم الكاريكاتوري الحيّ مباشرة على الهواء، مع مغامرة مواكبة الحدث، وإنجاز رسم فني تحت ضغط البث المباشر.
أضف إلى ذلك خوضه تجربة البرامج الفنية ورسمه ضيوفها عام 2012، عندما دخل بريشته برنامج «نوّرت» على mbc. عشرات الصحف اللبنانية، والوكالات العالمية احتضنت رسوم ستافرو جبرا وخطوطه، آخرها «البلد»، و«دايلي ستار»، و«الدبور». تميّز بالحسّ الفكاهي العالي في رسومه وأيضاً في حياته الشخصية والاجتماعية. كان محباً للحياة، يستمتع بكل ملذاتها. في الفترة الأخيرة، راح يتردد على وسط بيروت ومحيطه، ليلتقط صوراً فوتوغرافية، من عاصمة أرادها أن تكون الأجمل على الإطلاق، ومن بلد يوليه الفنان كل الأهمية ويفضّله على غيره. كان يردد «لبنان أجمل بلد بالعالم»، و«أنا معقّد بلبنانيتي». هذا ما جعل إنتاجه محطّ جدل، ولا سيما في السبعينيات، في خلال الحرب الأهلية والوجود الفلسطيني في لبنان، فستافرو من الفنانين الذين لم يخفوا بخطوطهم المنحى الفكري والسياسي الذي ينتمون إليه.
تقنياً، واكب مراحل التقدم الحاصل في عالم الصحافة. مع دخول الألوان إلى الصحافة الورقية، كان يحمل ألوانه من «الباستيل»، ثم «الأكواريل»، ليصنع رسوماته. كان هذا العمل يتطلب ساعات من الجهد. مع بدايات الثورة التكنولوجية، كان أول من استخدمها، وطوّعها في خدمة الكاريكاتور. استعان بها، لتكون مساعدة، إلى جانب ثباته في العلاقة الحميمة مع ريشته. دخل عالم الرقمية، والتواصل الاجتماعي، وأنشأ موقعاً ضم كل أرشيفه. ولم يبخل في نشر الرسوم على صفحاته الخاصة الافتراضية، لتصل إلى شرائح أوسع من الورق، وتواكب الحدث الآني.
ستافرو، المعروف بشخصيته المتفردة على صعيد الشكل، ولا سيما تسريحة شعره، ونفسه الفكاهي، اشتهر برسمه الشخصيات البيروتية النمطية. كذلك اخترع شخصيتي «بنت البلد»، و«أخت البلد» في صحيفة «البلد»، وهما عبارة عن امرأتين تتخاطبان دائماً في أحوال البلد وشؤونه. وطبعاً، لم تخلُ هذه الرسوم من اللعب على الكلام الذي اشتهر به، ومن الإيحاءات الجنسية، التي لقيت قبولاً لدى المتلقين، ولو اختلفت انتماءاتهم الثقافية. حيّز وجد رواجاً لافتاً، وقتها، وخاطب الناس بعيداً عن رسم الأحداث والوجوه السياسية. في حديث معه يعود إلى 2012، أسرّ لنا بأنَّ لديه هذه اللّذة بأن يسبق مانشيت الصحيفة (البلد). كان ينتظر اللحظات الأخيرة قبل الإقفال، ليبعث رسمته التي تسبق الصفحة الرئيسية. وعن خطّه الفني، يصف ستافرو نفسه بـ «الفنان الثوري»، بمعنى خروج خطوطه وألوانه، عن السياسات التحريرية التي تفرض نفسها غالباً على المحررين/ ات، والرسامين. يخرج عن هذه المساحة الضيقة، ليكسر كل حدود قد تمنعه من التعبير عمّا يدور في خاطره، ويتحسر على المساحة الضيقة التي تخنق العرب في التعبير عن الأحداث والشخصيات السياسية. رسم ستافرو العديد الوجوه السياسية، إما في بورتريهات أو في سياق متصل بالحدث الآني. علاقته بأهل السياسة لم تكن تتسم بعداوة أو خصام، بل كانت علاقة إحترام متبادل، حتى إنّ بعض السياسيين كان يلوم ستافرو لأنه لم يذكره بأي رسم من رسومه الساخرة على الصفحة الأخيرة. برع كثيراً في فن البورتريه. بالنسبة إليه، هذا الفن لا يقتصر على رسم «الأنف» و«العينين»، بل يضحي الوجه كعجينة تسبح في بحر من الألوان والغرافيكس وتقنيات الأبعاد. هكذا، خرج عن الرسم التقليدي للوجوه ليُدخل مدارس فنية متعددة إلى فن البورتريه، من ضمنها التكعيبية والسريالية. لستافرو إنتاج غزير في اليوميات والمطبوعات الدورية. كذلك كانت له مساحة متفردة في مجلة «الدبور» الساخرة، إلى جانب إنتاج توثيقي لعالم الكاريكاتور وتاريخه العربي والعالمي (باللغة الفرنسية)، وعشرات المعارض الفنية في العالم العربي والغربي.
حاز جوائز عالمية عدة، بينها «جائزة العرب الأولى للتفوق» عن موقعه الإلكتروني، وميدالية «الرسوم الكاريكاتورية في «مهرجان وسائل الإعلام العربية». ومُنح أيضاً لقب «صديق الأمم المتحدة»، وألبس «الوشاح الأزرق» في جنيف، وخصّه الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق كوفي أنان برسالة خاصة عام 2004. برحيل ستافرو وملحم عماد، وقبلهما بيار صادق، يفتح باب النقاش واسعاً حول الكاريكاتور اللبناني، الذي طوى اليوم صفحاته الأخيرة مع تجارب كبار رحلوا بعدما أغنوا وخلّدوا ــ كل على طريقته ــ هذا الفن وأحداثه المريرة والجميلة على صفحات الجرائد الورقية، وعلى المنابر العالمية. رحلوا من دون أن يكون لهم إطار نقابي يحميهم وينضمون تحت سقفه. بهذا الغياب المرّ، يُفتَح السؤال عن هذا الفن، وطرق تقديمه من جيل جديد ذي تقنيات ورؤى مختلفة، تخرج عن الريشة والورق، لتستقرّ على المنصات الاجتماعية، وتكوّن هويتها الخاصة، ولو ابتعدت عن الحرفية. فن الكاريكاتور يدخل زمناً جديداً ويطوي آخر رجالاته: ستافرو وملحم!
* يحتفل بالصلاة على راحة نفسه عند الثانية من بعد ظهر غد الثلاثاء في «كنيسة القديس نيقولاوس للروم الأرثوذكس» (مار نقولا ـ الأشرفية)، قبل أن يوارى الثرى في مدفن العائلة في مدافن «نياح السيدة الأرثوذكسية» (شارع المكحول ـ رأس بيروت). تقبل التعازي من الساعة 11 قبل الظهر، ويومي الأربعاء والخميس 15 و 16 آذار (مارس) في صالون «كنيسة القديس نيقولاوس للروم الأرثوذكس» (مار نقولا) ابتداءً من الساعة 11 قبل الظهر لغاية السادسة مساءً