املي نصرالله عادت مع طيور أيلول
روان عز الدين (الأخبار)
انتظرت «دار قنبز» حلول شهر أيلول كي تطلق السيرة الذاتية لإملي نصرالله (1931 ــ 2018) بعنوان «المكان» ضمن لقاء في «الجامعة الأميركيّة في بيروت» الساعة السادسة من مساء اليوم (راجع الكادر). أيلول هو شهر الكاتبة اللبنانية، لما يحمله من إحالة إلى روايتها الأولى… إلى وقت كان أهل القرى ينتظرون فيه عبور أسراب الطيور المهاجرة. إذا تجاوزنا أنّ روايات نصرالله اتسعت لذاكرتها الواقعيّة والمعاشة ضمن قالب خيالي، فإن كتاب «المكان» يأتي كفصل أخير من سيرة بدأت تدوينها بشكل مباشر في «في البال» (2000)، ثم «الزمن الجميل» الذي صدر هذا العام عن «دار نوفل ــ هاشيت أنطوان»، مستعيدة فيه حقبة الخمسينيات والوجوه التي رافقتها.
مع «المكان»، أقفلت نصرالله حكايتها، مسدية الزيارة الأخيرة إلى مكانها الأوّل. «إلى روح روجينا وكانت هي مصدر الرواية». إملي هي ابنة جدّتها وسليلة قصصها. تهديها الكتاب. الجدّة في هذه السيرة الذاتيّة، رحبة مثل ضيعة الكفير الجنوبية التي كبرت فيها نصرالله، و«المكان» بمجمله محصور في الكفير أو جورة السنديان كما تسمّيها دائماً. قد يتسع أحياناً إلى ما هو أبعد من الضيعة الجنوبيّة، إلى كوكبا، أو بيروت ودمشق ونيويورك وهنتنتون الأميركيّة. إلّا أن ذلك لا يكون إلا بدافع ملاحقة أفراد عائلاتها في هجراتهم التي تنكأ أسئلة حول الهويّة والانتماء والجذور والذاكرة. تستفيض الكاتبة في سرد الحكاية، وفي الكشف عن عوالم ألفها القارئ منذ باكورتها «طيور أيلول» (1962).
المفردات والعلاقات والعائلة والطبيعة والجغرافيا كلها آتية من الجنوب اللبناني، ومن الريف عموماً الذي منه شقّت الرواية اللبنانية طريقها. هناك كبرت وواجهت المجتمع، وهناك التحقت بالمدرسة قبل العمر الرسمي الذي يسمح لها بذلك، واستمعت إلى الأخبار والقصص. الناس الذين تكتب عنهم هم كالضيع والبيوت والأماكن، شاهدين على حيوات وتنقّلات كثيرة. تستعيد نصرالله أشخاصاً مرّوا من عائلتها لجهة الأم. الجدة روجينا التي تولّت تربيتها، كي تخفّف عن أمّها لطفى بعد ولادة أخيها لبيب والجد الياس بحزمه وتشدّده. خالها توفيق الذي هرب من خدمة «سفر برلك»، لكنه لم يستطع إكمال دراسته في فلسطين كما خالها أيّوب. ما دفعه إلى اتخاذ قرار السفر لاحقاً إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث ستزوره ابنة اخته هناك. أما الخال أيوب، فكان الملهم الأوّل مع صندوقه ووثائقه. هو من كان يتولّى الإجابة عن أسئلتها الكثيرة، ويملك التأثير الأوّل والمباشر عليها خصوصاً في ما يتعلّق بالكتابة والقراء. سنتعرّف أيضاً إلى آخرين ممن أسهموا في تكوين شخصيّة إملي، مثل الأب داهود وأمها لطفى وزواجهما.
أمام دفق الذكريات، كان على نصرالله أن تحدّد الماضي عبر وجوه من مرّوا بحياتها، من دون التقيّد بتسلسل كرونولوجي محدد (كيف تنجو ذكريات دون أخرى أصلاً؟). كل ذلك من خلال فصول تحمل أسماء الشخصيّات، وبعض المواقف التي تستذكرها من حيواتهم أو حياتها مثل «هي بين عالمين» و«أملين وسفرتها الأولى» و«هي وعالم العلم»… لكن العودة إلى الماضي العائلي، تصبح ذريعة لاستعادة محطّات شكّلت الوعي الوطني واللبناني لجيل بداية القرن العشرين مثل الاحتلال العثماني، والمجاعة الكبرى، والحرب العالميّة الأولى، والانتداب، وفلسطين قبل أن يبعدها الاحتلال الإسرائيلي. يقدّم السرد نتفاً من الماضي حيث العصافير والحقول والأشجار والمدى الواسع كان يتلقى خيال الطفلة ويمدّده. هذا ما تلقّفته «دار قنبز» التي أولت اهتماماً لافتاً بعوالم الكتاب وخصوصيّته التاريخيّة واللغويّة التي تتضمّن حوارات واستعادات بالمحكية وبعض المصطلحات العربيّة اللبنانية والرسائل والمذكّرات. تولّت الدار مشروع النشر بمبادرة من ابنة نصرالله مهى، التي اختارتها لنشر السيرة الذاتيّة الأخيرة لوالدتها. هكذا أخرجت الكتاب ندين توما وسيفين عريس، وصمّمته لين شرف الدين، في عمل جماعي متواصل استمرّ لحوالى أربعة أشهر، تخللتها لقاءات مع الكاتبة في أيّامها الأخيرة ومع ابنتها مهى. الأهم أن إملي رأت الكتاب وحملته بيديها قبل وفاتها بمرض السرطان في آذار (مارس) الماضي. توما التي تعبّر عن حماستها لنشر كتاب للروائية لبنانية، تعي جيّداً الإجحاف الذي تعرّضت له نصرالله من قبل المناهج التعليمية اللبنانية. إذ إن رواياتها ما زالت ترتبط ـــ بالنسبة إلى جيل كامل ـــ بالمدرسة وأساليبها التلقينيّة. من هنا ربّما يتقاطع المشروع مع رؤية الدار التي لم تكفّ عن البحث واستكشاف أساليب استثنائية للنشر باللغة العربيّة، ضمن قوالب معاصرة تعتمد التفاعلية على حساب التوجيه. هكذا تظهر بصمة «قنبز» جليّاً في نسختها من كتاب «المكان».
يتجاوز الأمر التصميم البصري الخارجي إلى ما يتعلّق بقراءة الكتاب نفسه، والتفاعل مع أحداثه ولغته وحقبته التاريخيّة، عبر الدعوة إلى قراءة تجربة إملي نصرالله بعين جديدة، من دون تجاهل السياق التاريخي الذي يفصلنا عن تلك الفترة ويربطنا بها في الوقت نفسه. التحدّي الأبرز تمثّل في كيفيّة تحويل هذه الذكريات الشخصية إلى وثيقة تاريخيّة ومعرفية كما تقول توما. من هنا كانت فكرة تحويل الكتاب إلى ثلاثية تتضمّن الكتاب ورؤيته العامّة وإخراجه، وخريطة لبنان وأخرى لموقعه على الخريطة العالمية، إلى جانب معجم لمفردات الكتاب ومصطلحاته، بعنوان «معاني المكان». يمكن فصل القاموس عن الكتاب بسهولة والاحتفاظ به كـ«ذاكرة من صور ومعان وأحداث وأقوال وأشجار وأشخاص وأفعال نرسم بها ماضينا» كما كتبت توما في مقدّمته. يستعيد قاموس الجيب الزمن التاريخي لأحداث الكتاب عبر تعريفات مقتضبة وسلسة لسمات وعناصر تلك الفترة مثل «سفر برلك»، و«الجيش العربي» و«العصملية الذهبية» و«الرابطة القلمية وأعضائها»، إلى جانب معان لبعض الأقوال والأمثلة الريفية الدارجة.
تقول الناشرة ندين توما إنّ التحدّي الأبرز لـ «قنبز» تمثّل في كيفيّة تحويل هذه الذكريات الشخصية إلى وثيقة تاريخيّة ومعرفية
أما الخريطة، فتدعو القارئ إلى اختيار مكان جذوره. ما يطرح بدوره مجموعة من الأسئلة: كيف يتم اختيار الانتماء؟ أهو مكان الولادة، أو تلك الروابط التي تشدّ أحدنا إلى مكان دون سواه أم هي متعلّقة بموقع الدفن؟ أسئلة هي قبل أي شيء مستمدّة من الكتاب الذي تجد توما أنه يطال كلّ بيت لبناني. ليس ذلك لأن المسافة بين الكفير وكوكبا تختصر لبنان بأكمله، بالنسبة إلى املي نصرالله، بل لأن الهجرة هي الثيمة الأساسيّة للكتاب. «يندر أن نجد بيتاً لبنانياً ليس فيه مهاجر على الأقلّ»، تقول توما، مستعيدة مراحل من التاريخ اللبناني الحديث، التي أدّت إلى هجرات متتالية منذ الاحتلال العثماني ولم تتوقف عن زيادة نسبتها. هكذا تقاس أعمار أبطال الكتاب بالمسافات التي قطعوها وفق الرؤية الإخراجية لـ «دار قنبز» التي ضمّنت الكتاب أيضاً فهرساً كرونولوجياً لمؤلفات نصرالله، وخريطة عائلية لها ولزوجها وأولادهما، بالإضافة إلى رسومات، ووثائق حقيقية وصور فوتوغرافيّة شخصية وأخرى لأقاربها وأهلها خلال محطات مفصلية من ذاكرتها التي لا نعرف كيف كانت ستصرفها لولا الكتابة.
* إطلاق «المكان» (دار قنبز) لإملي نصرالله: 18:00 مساء اليوم ــ قاعة عصام فارس في «الجامعة الأميركيّة في بيروت» (بلس ــ الحمرا).
طابع باسمها
يشهد اليوم أيضاً إصدار طابع بريدي باسم املي نصرالله. بناء على طلب عائلتها، أقرّ مجلس الوزارء في أيار (مايو) الماضي، قراراً بإصدار البطاقة التذكارية. الطابع يحمل رسماً كرتونياً لصاحبة «طيور أيلول» صمّمه الفنان جان مشعلاني، الذي كان دوماً مرافقاً لمقالاتها في مجلة «الصياد». الرسم (4×5 سم) مستوحى من غلاف كتابها الأخير «الزمن الجميل» (هاشيت-أنطوان). وعلى هامش الإصدار، تطلق «جمعية بيت المصّور في لبنان»، بالشراكة مع «تراثيوم»، 150 ملفاً تذكارياً (2×25×17.5 سم)، يحمل بين طياته الطابع البريدي التذكاري ممهوراً بختم خاص، سيكون متاحاً أمام الهواة الراغبين في الاستحصال عليه بسعر رمزي، إلى جانب إصدار بطاقة بريدية من نوع «ماكسي كارد»، للوحة الأصلية للطابع، تحمل توقيع مشعلاني أيضاً، وإمضاء الأديبة الراحلة.
بيتها فسحة فنية
عند السادسة من مساء اليوم، تطلق «دار قنبز» كتاب «المكان» ضمن ندوة في قاعة عصام فارس في «الجامعة الأميركيّة في بيروت». تشارك فيها مؤسّسة الدار الناشرة والكاتبة ندين توما، ومترجم روايات نصرالله إلى الألمانيّة هارتموت فندريتش، والمؤرّخة طفول أبو حديب التي تسلّط الضوء على السمات التاريخية لبداية القرن الماضي الذي تدور فيه أحداث «المكان». ستعرض في الأمسية أيضاً، أفلام قصيرة عن املي نصرالله وأحاديث معها أخرجتها سيفين عريس، إلى جانب قراءات بصوت الكاتبة الراحلة لمقاطع من «المكان». تدعونا الدار أيضاً في رحلة إلى أمكنة هذه السيرة، وتحديداً إلى «بيت طيور أيلول» في الكفير الجنوبيّة حيث قضت نصرالله معظم سنوات طفولتها. بمبادرة من نصرالله قبل رحيلها، وبمتابعة من ابنتها المعماريّة مهى، سيتم افتتاح البيت كمكان للإقامات الفنيّة والأدبيّة لمن يريدون العمل على مواضيع متعلّقة بالهجرة والأمكنة. هكذا تؤمّن الدار رحلة إلى البيت من بيروت نهاري السبت 8 والأحد 9 أيلول (سبتمبر)، يتخلّلها توقيع ثان لسيرة للروائية اللبنانيّة الراحلة.