في «بيت بيروت»… زينة الخليل تدعو لـ «شفاء لبنان»

ندوات، ورش عمل وأنشطة ترافق عرضاً بصرياً متعدد الوسائط تطلقه زينة الخليل من مبنى بركات المحوَّل إلى «بيت بيروت». هي إذاً حملة متكاملة من خلف متاريس اهترأت، ومن خط خطوط التماس… تنطلق لترسم مسيرة «شفاء لبنان» كما تراها أو تتمناها الفنانة بعد «الكارثة المقدسة» كما اختارت أن تعنونها

نيكول يونس

ما زالت ترتفع هنا بقايا المتاريس داخل غرف «مبنى بركات» المتشظي، حيث وضع بطوابقه الثلاثة بتصرف الفنانة الشابة كافتتاح للعروض البصرية فيه (على أمل أن يوضع بتصرف فنانين شباب آخرين بشكل خاص غير مدعومين). ترقّع زينة هيئات الوجع العتيق بكلمات شفائية: مودة، غفران، رحمة، تعابير ذات معان تسامحية مُبلسمة للجراح على أمل تضميدها.

لكن هل يزيل البلسم ندوب الفقد؟ نعم، تجيب زينة عن نفسها وعمّن جرب هذه الطريقة بالشفاء. عن «مانترا» خاصة بمن يريدون أن يتناسوا جروحاً ربما ما لمستهم الا عرضاً كي يبنوا منها «فناً». أما من ماتوا، فيبدو أن لا وجع بهم أو ربما على أهلهم ألا يتألموا؟ أن يغفروا؟ أن يرحموا؟ أن يظهروا الود؟ أن يجربوا «مانترا» الفنانة الشابة؟ أو الفنون عموماً كعلاج؟
لطالما طالعتنا زينة الخليل بمواد بصرية مثيرة للاهتمام والنقاش. بعضها متين جداً تأليفياً، ومنها المؤثر بحق. وبغالبيتها تنطلق من العناوين العريضة التي تمس الرأي العام اللبناني ككل. الفنانة الشابة التي ولدت في عز الحرب الأهلية كمعظم زملائها مواليد الحروب، ما برحت تعالج الموضوع من كافة جوانبه، إلى أن وصلت إلى نقطة تصفها هنا بـ «الشفاء». هي لا شك تنطلق من تجربة شخصية ذاتية وفردية، وهذا بذاته هام ومحط تقدير. نرى زينة تنطلق من حدود الألم إلى شبه ولادة جديدة، تنحى نحو الشكل التصالحي المسالم والتأليفات التبسيطية المتناغمة مع نفحة السلام الذي تنشده. تذكرنا بحركات صوفية والحق يقال أقرب إلى الدروشة من الصوفية. هي لا تريدها ثورة كما الصوفيين، بل تريد حركة سلام ورقص تعبيرية كالدراويش. لا تريد صخباً ولا آلاماً ولا صداعاً ولا بكاءً مريراً. هي تريد الصمت والانطلاق نحو سلام داخلي متين، أن تتطاير مع رقصة الدراويش اتحاداً بالسلام العالمي.
هنا نتذكر الفنانة اللبنانية والمعلمة المبدعة سيتا مانوكيان، التي عايشت الحرب الأهلية ليس كطفل، إنما كراشدة وقاست المرارة بوعي. شهدت الحرب بدوي انفجاراتها وطلقات قناصتها وأنين جرحاها وابتهالات الأمهات الثكالى. رسمت سيتا مانوكيان الحرب وفظاعتها، رسمتها بتأليفات معقدة كتعقيداتها. لكن بعد مسير طويل وشاق وصادق حتى التطرف، تحولت تأليفاتها تدريجاً من التعقيد إلى التبسيط. تغير صخب الألوان إلى تناغم سلامي صوفي تبعاً لحركة التأملات التي انتهجتها مدخلاً إلى السلام الداخلي بعيداً عن آلام التقاتل والتناحر. اتخذت سيتا خيارها المصيري عام 2005 لا بالفن، فالفن كان مرآتها بشكل تلقائي، وإنما في كل حياتها. وهي اليوم «الأم سيلا» راهبة بوذية في دير في سريلانكا. توقفت «الأم سيلا» عن رسم اللوحات، وفي المقابل تقوم برسم كتب للأطفال.

المقدمة التأريخية هذه عن المعلمة الصادقة سيتا مانوكيان تعيدنا إلى عملية «شفاء» شخصية تنتهجها زينة الخليل لكن ضمن إطار آخر (حد التناقض معها). رغم أن عملية «الشفاء» ذاتية، إلا أن الخليل تفضل العرض على الفعل المباشر، مع طرح تعميمي «شفاء لبنان». تعبير جميل يدل على اتساع روح زينة الخليل ورغبتها في شفاء الكل عبر شفائها. هذا ما يؤكده بيانها الفني: «تقوم زينة بإجراء مراسم الشفاء في جميع أنحاء لبنان، وتعمل من أجل السلام والمصالحة مع الطبيعة ومع المجتمعات التي تحملت عقوداً من العنف. تشمل المراسم التأمل، الترنيم، الرقص، والتدويم، كطقوس نارية تطهرية». ويتابع البيان الموزّع على مدخل المبنى: «من رماد الكربون المتبقي، تخلق الفنانة الحبر الأسود، الذي يمثل غياب الضوء، وتستخدمه للرسم على الأحجبة والقماش. في أعمال الخليل، يجتمع المكان والزمان في نقطة واحدة، وتتجلى لحظة الحقيقة في رسم يرمز إلى موت أوهام العالم المادي. في هذه العملية، تحول الفنانة بقايا الطاقة السلبية في الأرض إلى حب وضوء. وتعتقد الخليل أنّنا من خلال وجودنا الكلي والتام في هذه الأماكن، نكون قادرين على تطوير لغة بصرية تفهم ما هو ربما في الأساس فطري للإنسان، ألا وهو ميلنا نحو العنف، فضلاً عن قدرتنا العميقة على الحب».

طبعاً تلي هذا العرض تلاوة المانترا «مودة، رحمة، غفران»، وهو موثق في فيديوهات للفنانة وصور للمواقع التي جرت فيها «مراسم الشفاء». هنا يشار إلى أن الطابق الأرضي اختارته الفنانة ليكون «محطة عمل لرسم الشعارات (المانترا)، حيث يمكن لزوار المعرض تجربة التلوين والتأمل، وأيضاً المشاركة في رسم الشعارات. ويمكن للمشاركين رسم لوحتين، وأخذ واحدة معهم لتعليقها حيثما يشاؤون، والأخرى تركها للفنانة ليتم تجميعها وأرشفتها».
وفي الطابق الأول، تعرض الأشرطة المصورة لـ «عملية الشفاء» وأيضاً لوحات الفنانة المصنوعة من الرماد المتحول إلى حبر على قماش، بشكل نقشة كوفية، إلى جانب صور لمبنى بركات في تلك الحقبة من الحرب الأهلية. وفي هذا الطابق أيضاً، عملت الخليل على «سلسلة جديدة من منحوتات السيراميك والحجر كتكملة لمحور اللوحات المانترا الفنية الأساسية. هناك 108 قطع من بلاط السيراميك لكل شعارات الحب، الرحمة والغفران. يتوزع مجموع القطع الـ 324 من بلاط السيراميك على بيت بيروت بالتناسق مع ما تبقى من البلاط الاساسي» الى جانب أبيات من الشعر بقلم الخليل.
ثم في الطابقين الثاني والثالث عمل فني مكون من 17 ألف خط خشبي مترافق مع قطعة فنية صوتية لإحياء ذكرى 17 الف مفقود في الحرب الاهلية اللبنانية. وقد تعاونت الفنانة مع راي حاج لإنتاج هذا العمل الفني الصوتي وهي تردد شعارات السلام.
طبعاً الحملة/ العرض بمفهومها الإنساني العميق، نبيلة حتى التسامي. طوباوية حتى الطمأنينة. أخلاقوية حتى الانسلاخ عن الواقع. وتلك حال غالبية الأعمال التي يقدمها فنانو طبقة لم تعانِ جماعياً، بل جل ما يقومون به هو ترسيخ مركزيتهم، طالبين من المتألمين حقاً أن يدوروا في فلكهم. أن ينسوا إن نسيَ الفنانون. أن يفرحوا لفرحهم. أن أو يحزنوا لحزنهم، بدل أن يكون العكس هو القائم. وهنا لا يكون ذلك عن سوء نية اطلاقاً، بل من عيشهم في فقاعة بعيدة عن الألم اليومي. فقاعة شاعرية لا تصل إلى النزف، بل إلى خيار خوض تجارب شخصية ربما تكون مرفّهة، أو أقله هم اختاروها ولم تخترهم كما حصل للمتضررين النازفين من الحرب الأهلية.
بمقاربة بسيطة مع تجربة المعلمة سيتا وخيارها الراديكالي في رفض الحرب والاتجاه إلى الشفاء منها، هل سنرى زينة الخليل تبتعد عن العرض والتعميم باتجاه الفعل الحقيقي الراديكالي؟
لذا يبقى السؤال: هل تحقق هكذا حملة/ معرض نتائج في نفوس الناس المعنيين كما تحققه مع من يعيشون على هامش الوجع (بما أنها تحمل هذا الاسم) «شفاء»؟ ومتى «الشفاء»؟
في معرض مقابلة خاصة مع «الأم سيلا» وفي ردها على سؤال «هل هناك سوق لأعمالك الفنية؟ هل يؤرقك ذلك؟». تجيب بـ «شفاء» تام: «وهبت كل أعمالي لأختي ألين، فلتؤرَّق هي لذلك». ثم تُسأل: «هل لديك ما تودين نقله لشخص آخر، أو تقولينه للأجيال القادمة؟». فتجيب: «الفن ليس في المفاهيم! ولا في النظريات، لكنه في الصمت داخل ذهنك! ومن الجيد أن نعلم، أن نقيّم أو نرفض ما يجري الآن في الفنون عبر العالم من نظريات ومفاهيم»!«كارثة مقدسة: شفاء لبنان» لزينة الخليل: حتى 27 تشرين الأول ـــ «بيت بيروت» (السوديكو) ـــ beitbeirut.org

ادب وفنون
“الأخبار” العدد ٣٢٩٦ الخميس ١٢ تشرين الأول ٢٠١٧