رحيل الفنان الخطاط محسن فتوني…

بعدما نعاه على صفحته، أعاد الكاتب الصحافي الأستاذ أحمد بزون نشر حوار معه أجراه عام 2003 «حول سيرته الفنية التي استمرت أكثر من نصف قرن من العطاء والإبداع وتجميل الخط العربي»:

تأثر بقوانين ابن مقلة وصدمته لوحة الرفاعي في مصر

محسن فتوني: الكومبيوتر يدمر الخط والحداثة تحتاج إلى الأصول

الكاتب بزون احمد .

السفير (1298 كلمة)
التاريخ 17/09/2003

معلومات أخرى
تاريخ النشر: Sep 17 2003 12:00AM
العامود: 2
النوع: TYPE ARTICLE
الموضوع: آداب وثقافة وفنون
العدد: 9601
الصفحة: 18

الفنان محسن فتوني (مواليد 1933) من الأسماء البارزة في تاريخ الخط العربي، صاحب تجربة تمتد لأكثر من نصف قرن من الزمن، كان خلالها من أهم خطاطي الصحف وقد جال على أكثر من عشر منها، قبل أن يرسخ تجربته فنياً ويبدأ رحلة المعارض في لبنان والخارج، ويحصد في تجربته العديد من الجوائز.
كتاب »موسوعة الخط العربي والزخرفة الإسلامية« (جزءان)، وكتب أخرى قيد الاعداد وعدد من الأبحاث في مجال الخط العربي.
يكرمه رئيس الجمهورية العماد اميل لحود بوسام الأرز من رتبة فارس في احتفال يقام غداً الخميس في قصر الأونيسكو بدعوة من وزارة الثقافة. حول تجربته هذا الحوار:
* تكرمك الدولة غداً الخميس بوسام الأرز الوطني من رتبة فارس يمنحك إياه رئيس الدولة. ماذا يعني لك هذا التكريم. ثم كم برأيك كرمت الدولة فن الخط في الأساس؟
– مما لا شك فيه ان هذا التكريم من فخامة الرئيس يتوج اعمالي على امتداد 54 عاماً، قضيتها في الصحافة وفي مكتبي وخطوط اللوحات التي قمت بها، بعد نيلي دبلوم الخط العربي من مصر في العام 1965 مشفوعاً بشهادة امتياز، والتي تمنح فقط لمن يحوز المرتبة الأولى، حيث تكرر دخولي مباراة الخط العربي لنيل دبلوم التخصص في الخط والزخرفة والتذهيب. ونلت معه أيضاً شهادة امتياز وكما قلنا لا تمنح إلا لمن حاز الدرجة الأولى.
وكانت هاتان الشهادتان قد حزتهما بعدما طلبت وزارة المعارف اللبنانية من زميلتها وزارة التعليم العالي في مصر تسهيل دخولي لتقديم الشهادتين المذكورتين. كما أنني اشتركت في تركيا، في العام 1986، باسم لبنان في دورة حامد الآمدي، حيث حزت تهنئة من المركز الإسلامي، وتكرر ذلك في المهرجان الدولي الذي أقيم في طهران العام 1997، وكان في ذلك الوقت قد شارك أكثر من 1500 خطاط من مختلف أنحاء العالم، حيث فزت بإحدى الجوائز العشر الأولى، واعتبرت عضواً فخرياً في نقابة الخطاطين الإيرانيين، ونلت دبلوم شرف بفوز إحدى لوحاتي ونصها »يقيني بالله يقيني« والتي ازدانت بأسماء الله الحسنى كضرب من الزخرفة، وهي بالخط الديواني الجلي.

أصعب الأعمال

* هل ترى ان فن الخط في لبنان مخدوم من قبل الدولة؟
– لا. بما أن الخطاط اللبناني يعتبر نباتاً برياً، واستطاع بجهده الخاص ان يجوّي هذا النبات، ويسهر الليالي حتى يكون نباتاً جوياً من شأنه ان يخدم فناً شرساً. إذ ان عمل الخطاط في الواقع من أصعب الأعمال. لكي نعطي مثلاً واضحاً على ذلك نقول: إن الطبيب يدرس 7 سنوات، ثم يتدرب على يد طبيب أكبر منه ليستطيع ممارسة الطب، أما الخطاط اذا ما أراد دراسة الخط دراسة واقعية حسب القوانين الخطية فلا تكفيه عشرون سنة.
* حسب أي قوانين؟
– قوانين ابن مقلة، الذي أحب أن يقنن الخط، فاعتمد قانون النقطة. فجميع الخطوط لها مقاييس. كل حرف له مقاييسه إذا كان منفرداً، وله مقاييس أخرى اذا كان ضمن الكلمة.
فحرف الألف مثلاً، في خط النسخ، يتكون من ست نقاط، أما في الرقعة فهو من ثلاث نقاط وفي الثلث من سبع الى تسع نقاط. وهكذا فبقية الأحرف تخضع لهذا القانون.
* كم احتاجت تجربتك من سنوات لإنهاء مرحلة التتلمذ؟
– لم اتتلمذ على أحد ولو أني كنت أتمنى ان أتتلمذ على خطاط كي اختصر الطريق، وحتماً كنت سأجيد الخط أكثر واختصر الزمن.
* في أحدى تجاربك على الخط شاهدنا صورة لخط على جدار المستشفى الفرنسي في الخندق الغميق، وكان عمرك 9 سنوات. كيف بدأت تتهجى الخط العربي؟
– في هذه السن المبكرة كنت أزاول الكتابة وليس الخط، لأن الخط درجة علمية متأخرة، فكانت لوحتي الأولى هي حائط المستشفى الذي ذكرت، وطوله حوالى 50 متراً وكنت أخرطش بواكير خطوطي عليه حتى يسود الحائط فيأتي الشتاء ويعيده لي لوحة بيضاء لأعيد الكتابة عليه من جديد.
عندما دخلت المدرسة بعد ذلك، وكنت في سن التاسعة، كنت أخرطش على كتبي ودفاتري وأي ورقة تطولها يدي. بعد نيلي شهادة السرتفيكا العام 1948 وجدت نفسي خطاطا.

خطوط الصحف

* في عملك بالصحافة منذ تلك السنة بدأت مهنة الخط. كيف تم الفصل بين مشروع المهنة واعتماد الخط كعمل فني ابداعي؟
– أول دخولي الى الصحافة كان جريدة »الروّاد« كخطاط، العام 1948، ثم جريدة »اليوم« التي كان يملكها النقيب الراحل عفيف الطيبي، ثم عملت في مجلة »الجمهور الجديد« التي كان يملكها النقيب الراحل فريد أبو شهلا، ثم جريدة »الرفان« التي كان يملكها النقيب الراحل روبير أبيلا، ثم جريدة »الكفاح العربي« التي كان يملكها النقيب الراحل رياض طه، وكذلك جريدة »المحرر« التي كان يملكها النقيب الراحل هشام أبو ظهر، ثم في جريدة »الحياة« التي كان يملكها الراحل كامل مروة، وفي صحف أخرى. واستمر عملي في الصحافة حتى العام 1970.
سافرت الى مصر العام 1962 حيث طلبت من الخطاط سيد ابراهيم ان يرشدني الى الأماكن التي تحوي خطوطا ومخطوطات. فزرت الكتب خانة بناء على ارشاده، وهناك صعقت عندما رأيت احدى اللوحات لرئيس الخطاطين محمد عبد العزيز الرفاعي، وكانت لوحة طولها 5,1 مترا وعرضها مترا واحدا، وكانت تحوي جميع أنواع الخطوط. وعندما رأيت هذه اللوحة أصبت بذهول شديد، وكدت أتوقف عن كتابة الخط، وأعلمت زوجتي بذلك، وسألتني: وأنت تعبد الخط عبادة. قلت: وهل أنا خطاط أمام هذا الخط الذي أرى. وعانيت من ذلك مدة سبعة شهور قضيتها وأنا أصارع نفسي، حول ترك الخط او الاستمرار به، لأن اللوحة التي رأيتها كان الرفاعي كتبها ليجيزه أستاذه لممارسة الخط، لأن العرف عند الخطاطين ينص انه لا يحق للخطاط ان يوقع ما يكتبه إلا إذا أجيز من أستاذه. وقد أجازه أستاذه الخطاط محمد عارف الفلبوي. يومها طرحت على نفسي السؤال التالي: هل وصل الاستاذ الشيخ الرفاعي الى ما وصل اليه بين عشية وضحاها، أم انه مرّ بمراحل ابتدائية، ثم وصل الى ما أنا فيه ثم أكمل. ولماذا لا أخطط هذا السبيل، فأخذت من ذلك الوقت اقتني مخلّفات الخطاطين، سواء المطبوعة منها او الأصلية كي اتدرب عليها، بغرض تطوير كتاباتي، وعملت بالمبدأ القائل، »وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم/ إن التشبه بالكرام فلاح«.
* تطور فن الخط خلال مسيرته الطويلة من العصر الأموي وحتى اليوم. كيف يمكن أن تكون لوحة الخط الحديثة برأيك؟
– عموما في الرسم يمكن أن يكون هناك فن واسع. في الخط هناك مصطلحات عامة لا يمكن اللعب بها. لا نستطيع أن نستبدل الحروف. هناك خطاط في سوريا هو نضال طبال كتب الحرف ثلاثة أضلاع المربع، وأنتج 60 أو 70 لوحة لا يمكن لأحد قراءتها. لا يمكن أن نغير الحرف حتى يصبح غير مقروء.
* لكن حصل هناك كسر للتوازنات والمقاييس والنسب.
– الخطوط الأصلية لا تزال مكانها، ولا يمكن تغييرها. هناك تجارب خرجت على المألوف و»زادتها« بذلك، وقدمت خطوطا غير مقروءة، لكن الميزة الأساسية في الخط العربي أن يكون مقروءا. هناك من لا يعرفون الأصول ويدعون الحداثة، لكن الحداثة تحتاج الى معرفة الجذور، وكل عمل فني ليس له جذور هو ابن حرام كما قال محمد عبد الوهاب ذات مرة.
* ماذا استطاعت الحروفية أن تحدث على مستوى لوحة الخط، ألم تفتح أفقا لفن الخط؟
– الحروفية فن قائم بذاته وليس خطا. هي مسألة أخرى. لم تفد الخط بشيء.

شخصية الخط

* اليوم استعيض في الصحافة عن توظيف الخطاط بالخطوط الكثيرة الجاهزة في الكومبيوتر. هل في ذلك تدمير لآفاق الخط أم تعمير له؟
– الكومبيوتر لا يعمر الخط. عمله محدود على هذا المستوى، لو اقتصر استخدامه على كتابة الحروف بحرف 12 أو أصغر أو حتى 16 بونطا، لكن الأمر أفضل. الكومبيوتر يخدمنا بالسرعة، لكنه لا يخدم الفن، هو يدمره.
* لكن هناك من يستخدم إمكانيات الكومبيوتر في وضع خطوط فنية بدل استخدام الوسائل البدائية.
– العامل الاقتصادي وراء كل ذلك. إذا كتبنا بطاقة عرس بواسطة الكومبيوتر وأخرى بيد الخطاط، نجد الفرق واضحا وجليا. وواضح ما هو الأفضل.
في كتابي الذي أعده للطباعة سأظهر بالصورة الواضحة الفرق الهائل بين رداءة خط الكومبيوتر وعظمة خط اليد. وأعطي مثلا على ذلك، لو أردنا خط كلمة »الأم« بمقاس (5 × 39 سم) هل يمكن للكومبيوتر أن ينفذ ذلك؟ بالطبع لا، لكن الخطاط يعطي ذلك بأسهل ما يكون، وبشكل أنيق. ولننظر اليوم الى الصحافة، فكلها متشابهة بالحرف، إنما قبل الكومبيوتر كان لكل صحيفة شخصية تميزها عن سائر الصحف، هي شخصية الخط.
* معروف أنك تخط بمواد تصنعها بنفسك. هل هذه المواد حكر بتجربتك أم أنك أخذتها عن أساتذة؟
– الحبر الذي أستخدمه أقوم بصنعه في منزلي، وكذلك يمكن تعبيد الورق باستخدام أدوات تجعله صالحا لكتابة اللوحات. وسبق لي أن نشرت في كتابي »موسوعة الخط العربي« كل المعلومات التي ينبغي أن يطلع عليها هواة الخط والمحترفون، غير أن الدار التي نشرت الكتاب لم تكن قمينة بذلك، فأساءت الطباعة وكنه الكتاب.
المواد أخذت صناعة بعضها عن كتاب »صبح الأعشى« للقلقشندي، لكنني بتجاربي الخاصة واحتياجاتي الى أن يكون الحبر معبرا عن ذاتيتي كنت أعدل بعض تكويناته لتصبح ملائمة لما أريده.
الحبر الذي أستعمله يمكنني أن أقول بأنه يعيش ألوف السنين.