ثلاثون عاماً على رحيله… ناجي العلي الريشة البندقيّة

ملف جريدة الأخبار، العدد ٣٢٦٠ السبت ٢٦ آب ٢٠١٧ (كلمات) ننشره بالكامل تحية للشهيد الفنان ناجي العلي

حنظلة: الريشة البندقية

تحية الفنان السوري يوسف عبدلكي إلى زميله الشهيد ناجي العلي

ثلاثون عاماً على رحيله… ناجي العلي الريشة البندقيّة

 يوم 29 (آب) أغسطس، إنطفأ ناجي العلي (1937 ـــ 1987) متأثراً بجراحه في مستشفى «تشارينغ كروس»، في العاصمة البريطانيّة. هذا المبدع الفلسطيني المتمرّد الذي شكلت تجربته منعطفاً في فن الكاريكاتور العربي، وصاغ برسومه وعينا الجماعي في مرحلة حاسمة من الصراع ضد إسرائيل والاستعمار والرجعيّات العربيّة، رحل متأثراً بجراحه، بعد شهر من اطلاق النار عليه، في أحد شوارع لندن، بكاتم صوت تعددت الأصابع الضاغطة على زناده.

وهو يرقد اليوم في مقبرة «بروك وود» الإسلامية في لندن، تحت الرقم 230191، إذ حالت الظروف تنفيذ وصيّته بأن يدفن في مخيم عين الحلوة، المكان الذي انطلق منه بعدما اكتشفه غسان كنفاني هناك، لينشر أولى لوحاته في مجلة «الحرية» عام 1961. لقد أرعب ناجي الحكام العرب المتخاذلين، بقدر ما أوجع العدو الاسرائيلي وعرّى الأنظمة الخائنة، المستبدة، المتآمرة، التي قادتنا الى الهزيمة. الفنان النحيل الساخر الذي جمع الموهبة والمراس والثقافة إلى الرؤيا الثاقبة والوعي الراديكالي، كان شاهداً، في تغريبته بين بيروت والكويت ولندن، على المنعطفات الحاسمة للقضية الفلسطينية. واكب الأحداث الكبرى، والمعارك، والمواجهات المصيريّة، بعيني حنظلة ابن العشر سنوات الذي لن يكبر إلا حين يعود إلى قريته الشجرة في الجليل، في فلسطين المحتلّة. ثلاثون عاماً بعد استشهاده، ما زال نتاجه وفكره حاضرين أكثر من أي وقت مضى. صنوه «حنظلة» في كل مكان، فوق دفاترنا وصحفنا وفي وجداننا وضمائرنا… في العالم الافتراضي، وعلى جدران شوارعنا والأحياء التي يسكنها الفقراء، والميادين الثائرة… في مخيّمات الشتات، والمدن الفلسطينية تحت الاحتلال، وعلى جدار الفصل العنصري. تحيّة من «الأخبار» وقرّائها إلى ناجي العلي «آخر الأحياء» كما رثاه الشاعر أحمد مطر. ناجي الذي يعلّمنا اليوم، كيف نواصل حمل البندقيّة… في الطريق إلى فلسطين.

أنا عربي يا جحش!

بيار أبي صعب

أيّاماً قليلة قبل موعد الذكرى الثلاثين لاستشهاد ناجي العلي، خطر لشخصيّة بارزة في المشهد السياسي اللبناني، أن توجّه إهانة جديدة إلى الشعب الفلسطيني، ماضية في ممارسة تلك الهواية التي تميّز اليمين الانعزالي في بلد العسل والبخور، بين «رهاب الغريب» و«الهويّة المذعورة» و«السيادة المستهدفة».

المغرّد زعيم تيّار أساسي في البلد، متحالف مع المقاومة تحديداً، نشر على حسابه في أحد مواقع التواصل الإجتماعي صورة بالأبيض والأسود لمخيّم عين الحلوة «في أوّل الستينيات»، ويبدو كناية عن مجموعة خيم منصوبة في خطوط متوازية، فوق أرض بور عند أسفل تلّة، يفترض أنّها اللبنات الأولى لمخيّم اللاجئين المعروف في الجنوب اللبناني. وأرفقها بهذا التعليق: «ما تقبلوا بأي مخيّم يا لبنانيّي #ليبقى_إلنا_وطن». طبعاً ليس هدف هذا الموقف البليد سياسيّاً، والمشبوه أخلاقيّاً ووطنيّاً، سوى التجارة بـ «الخوف»، ومحاولة اقناع الناس (الفئة التي يتنافس عليها مع خصوم/ حلفاء أسوأ منه) بأن «الخطر» الذي يحدّق بهم، مصدره طيف «الغريب» الطالع من مسرحيّة للأخوين رحباني، لا مجارير النظام الطائفي الاقطاعي المنهار الذي تتناهشه طبقة مافيويّة، جاهزة لكل المساومات على الكرامة الوطنيّة، من أجل ثرواتها وامتيازاتها… نظام فاسد بائس، تجدر الإشارة إلى أن الفارس «الاصلاحي» الخائف على «وطن ـــ إلنا» و«اللبنانيي»، تمركز فيه بنجاح ملحوظ، وبات شريكاً أساسيّاً في اللعبة الموبوءة.
بعد يوم من تغريدة «مهووس عين الحلوة»، وعبر برنامج تلفزيوني مرتّب بعناية على خلفيّة أيديولوجيّة وبأجندة سياسية واضحة، لاقاه Zorro على «دبابة اسرائيلية» «لتحرير لبنان من الفلسطينيين والسوريين». و«زورو» هذا أحد «نواب الشعب اللبناني»، وابن زعيم «سيادي» آخر باع روحه للعدو الصهيوني. هكذا اكتملت الجوقة في زمن الربيع العربي المسرطن! تلك الجوقة التي يعرفها ناجي جيّداً: «إنت مسلم أو مسيحي، سنّي أو شيعي، درزي أو علوي، قبطي أو ماروني، روم كثوليك أو روم أرثـ… ؟»، يسأل القزم السمين، البلا عنق، بالبذلة والكرافات، مواطناً معدماً جالساً على برميل فارغ، في أحد رسومه الشهيرة. فيجيبه هذا الأخير: «أنا عربي يا جحش»! لقحوا أطفالكم برسوم ناجي العلي.
مخيّم عين الحلوة المحاصر اليوم بنيران مجموعات محصورة من المرتزقة والتكفيريين والموتورين لا تمثّل سكانه، ولا تخدم مصالحهم، ولا تؤمن بقضيّة فلسطين، هو جزء من تركيبة وطننا ومجتمعنا، ويعيش فيه أهلنا، لا جحافل الغرباء الذين «أخذوا مكاننا» كما يخيّل للانعزاليين الجدد. مخيّم عين الحلوة هو المكان الذين انطلق منه ناجي العلي في تغريبته الفريدة التي غيّرت مسار الكاريكاتور العربي، ولعبت دوراً حاسماً في وعينا السياسي والثقافي والاجتماعي. «عين الحلوة» رسمه ناجي مراراً، وأشهر الرسمات تلك التي تجسّد رأساً عملاقاً لامرأة بالطرحة الفلسطينيّة، تنهمر من عينها الدموع، فيما الجندي الاسرائيلي يقف كالحشرة عند سفحها. عين الحلوة؟ هنا كان ناجي العلي قد أوصى أن يدفن، على مرمى حجر من فلسطين، لولا وعورة الواقع التي أبقته سجين مقبرة باردة، في الأرض الغريبة. سيبقى المخيّم مكاناً عالي الرمزيّة، غالياً على قلوب اللبنانيين وجزءاً من وجدانهم. وكل محاولات أبلسته، عمداً أو عن جهل وتعصّب، وتحميله أخطائنا وذنوب نظامنا المريض، لا يمكن إلا أن تصب في مصلحة أفيخاي وشركائه.
ناجي العلي خرج من المخيّم، لكن روحه بقيت هناك. صار أشهر الفنانين العرب، وكانت الأمّة تصحو كلّ صباح على غضبه وصراخه، على نقده اللاذع واتهاماته المباشرة وتعليقاته المُرّة، على قراءته السياسية ورؤياه الثاقبة لجوهر الصراع، وحتميّة المواجهة مع العدو الاسرائيلي ورعاته الغربيين وخدمه العرب. كان يرسم بالسكين وجعاً على شكل الوطن الكبير، في مكان ما بين جورج غروس ورينيه ماغريت. الفنّان الملتزم جسّد الحكام والأسياد العرب بكروشهم المقيتة، وابن الشعب الصبور بملابسه المرقّعة، والمرأة العربيّة التي تختصر العذابات والآمال، والفدائي بالكوفيّة والبندقيّة الذي يشكّل أفقنا الوحيد… كان فنّه الثوري مطعّماً بكلام كثير، شاعري أحياناً، وبلمسات سريالية مدهشة. كان صادقاً وبسيطاً وواضحاً. لم يرحم أحداً، لا ياسر عرفات ولا محمود درويش. كان صدامياً وشرساً وعنيداً ولا يهادن، حتى حين دخل جنود الاحتلال بيروت، ليعودوا فيهربوا منها كالجرذان. كان وحده فعالاً أكثر من كل الأدبيّات الثوريّة. هذا يفسّر قوّة حضوره اليوم لدى الأجيال الجديدة، من خلال صنوه حنظلة غالباً، على القمصان والجدران وشاشات العالم الافتراضي.
يفرض ناجي نفسه الآن، كما لم يفعل يوماً، وقد بلغ الصراع أوجه مع العدو الإسرائيلي، وبتنا على خطوات قليلة من تحقيق حلمه بالعودة إلى أرض فلسطين. ناجي الملاذ، والأيقونة، والمرجع. ناجي «المثقف المعترِك» بتعبير أستاذه غسان كنفاني، والمبدع الذي لم يهادن حين هادن الآخرون. نستجير به، في هذه الأزمنة العصيبة، الحاسمة. صحيح هناك من تخاذل وتعب واستقال أو تاه ببساطة وضل طريقه… هناك من باع وساوم وتنازل ونخرته الجرثومة المذهبية البغيضة… هناك من غيّر موقعه، وبقي محتفظاً بدمغة المناضل الثوري! لكن أبناء ناجي وورثته كثر، على اتساع رقعة العالم العربي والمنافي وبلاد الشتات الواسعة. حين ضاع بعضنا في سراب «أوسلو» وغرق في متاهاتها، بقي ناجي يحرك ريشته كالمبضع في ضمائرنا. كان الفنان الرائي يعرف تماماً أن العدو الاسرائيلي لا يفهم إلا لغة واحدة، هي لغة الفدائيين، وأن الكفاح المسلّح وحده يشق طريق العودة إلى فلسطين.
بعد أيّام ثلاثة، تحل الذكرى الثلاثون لسقوط ناجي العلي. سقوطه بكاتم صوت مجازي يجمع بين الرجعيّة والاستبداد والتخاذل من الجانب العربي، والهمجيّة الاسرائيلية بحماية الديمقراطيات الكبرى من الجانب الغربي. أليس هذا الوحش الأسطوري المتعدد الرؤوس الذي أمضى ناجي العمر ينازله بالريشة، ويدير له إصبعه الوسطى؟ إسألوا اليوم هؤلاء القتلة: إن فناناً مثل ناجي العلي لا يملك ترف الموت، ما دامت المعركة مستمرّة حتى النصر.

يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | PierreABISAAB@

معجزة ناجي… عبقرية فلـسطين

سيف دعنا

«أنجاد أمجاد، ذوو ألسِنَة حداد». دَعْفَل الشيباني في وصف آل البيت: من رسالة الجاحظ «في علي بن أبي طالب وآله من بني هاشم»
«كان أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما أعظمه عندي صغر الدنيا في عينه»
ابن المقفع: «الدرة اليتيمة»

لمن غنيت يا كاسترو إلفيس؟ سأل شاعر تشيلي الفذ بابلو نيرودا في قصيدته عن شاعر البرازيل العظيم؟(1) «للمستعبدين على متن سفن الجحيم»، أجاب إلفيس: «لأبطال العالم الجديد». كان كاسترو إلفيس «شاعر المستعبدين» بحق، وشاعر المقاومة والتمرد على العبودية بجدارة.
كان شاعراً فذاً بقضية واحدة فقط (إلغاء العبودية)، لكن قضيته حينها كانت قضية العالم أجمع، وليس البرازيل فقط. كانت أم كل القضايا في عصره، تختصر كل ما عداها ولا يختصرها شيء. لم يكتب عن الحب والأزهار والطبيعة – «إنها لجريمة حقاً»، قال برتولد بريخت مرة، «أن تتحدث عن الأزهار الجميلة حين يكون هناك بشر يُقتلون». فحين كتب إلفيس (قصيدة «القرن») لأهله في البرازيل، ولكل من كان يقطن الإمبراطورية البرتغالية، يحذرهم: «مليون قرن من الزمن ينظر إليكم»، كان يعكس حساً تاريخياً وسياسياً فذاً لم يعرفه أي شاعر آخر حينها.

فعدا كل العبقرية والخيال الشعري المذهل والخصب، كان الفيس يعرف أن العالم على وشك الانقلاب رأساً على عقب، والأهم، كان يعرف (وربما كان الوحيد بين كل شعراء أميركا اللاتينية حينها) أن قضيته الكبرى، «إلغاء العبودية»، تحمل في ثناياها بذور تغيير العالم. كان يرى الأفق ويرى المستقبل (قصيدة «أميركا») كما لم يره أحد غيره من الشعراء، لهذا كان المستعبدون في شعره فقط هم «أبطال العالم الجدد» و«أبطال العالم الجديد».
لم يكن إلفيس شاعراً فذاً فقط، أو حتى مناضلاً عظيماً أيضاً: رجل واحد ووحيد يحمل في بلده لواء قضية العالم الأولى والأهم حينها و«يفرضها على أجندات السياسيين» وينتصر (2). رجل واحد ووحيد يصبح صوت كل المضطهدين والمستعبدين في بلاده وينتصر (لم ينشر شعره في دواوين حتى يقرأها أبناء النخب وطلبة الجامعات. كان يقرأ شعره للعمال والفقراء والمستعبدين في الحقول وفي الشوارع وعلى أرصفة الموانئ، ولم تنشر في دواوين إلا بعد وفاته). كان إلفيس فوق كل ذلك «الأعجوبة» الفذة التي أنتجتها عبقرية الشعب البرازيلي في مقابل وحشية العبودية التي كانت «تسحق روح البشر»، كما كتب الروائي البرازيلي جورجي أمادو: «وفي أحد الأيام، ابتدع الشعب الأسود في البرازيل، المستعبد الشقي، أعجوبة كاسترو الفيس الشعرية. لقد كان هذا شعباً لا يستطيع الكلام، فجعل يفتش عن صوت ليعبر بواسطته عن أفكاره. وأنتج أجمل الأصوات» (3)
أما عندنا، فلقد تجلت عبقرية فلسطين وعبقرية شعبها وتاريخها وثقافتها وعبقرية كفاح أبطالها في أعجوبة واحدة اسمها ناجي العلي، وحده دون سواه. فكل ما عداه من شعراء ومفكرين ومثقفين وفنانين وسياسيين وقادة «كانت صفاتهم أكبر من ذواتهم»، وكانت فلسطين وقضيتها هي من أعطت لهم «وزناً فوق وزنهم». حتى محمود درويش اعترف بذلك في إجابته على سؤال الناقد العربي الفذ منير العكش: «تصور أنك ولدت في مكان آخر غير الوطن المحتل، ألن يكون لك وزن آخر في الشعر العربي؟». هذا لا يعني أن محمود درويش ليس شاعراً استثنائياً يندر تكرار موهبته وصفاته الشعرية. لكن الشعر «كان ولا يزال الوجه الأكثر نضرة وإشراقاً بين كل نشاطاتنا الثقافية» العربية.

والأهم، عندنا نحن العرب، يبقى «الشعر وحده هو نتاجنا الإبداعي الذي يتسم بتواتر لا انقطاع فيه… استمرار لمسيرة تاريخية ما زالت تحمل حقائبها وتسافر». لهذا يقول درويش: «أنني أطمح إلى أن اصدق بأن الصدفة لم تخلقني وحدها، ولكنها عجلت عمر وصولي الى الناس. لقد سهلت علي عملية تقديم نفسي وتنميتي. وهنا نلاحظ مفارقة غريبة: انني مدين للمصادفة ولكنني متمرد عليها» (4)
إلا ناجي العلي. فلم تكن صفة ناجي المبدع والفنان أبداً أكبر من ذاته في أي لحظة على الإطلاق. فلقد كان الأول، وكان الأفضل وكان الأكثر إبداعاً بما لا يقاس. كان الأكثر عبقرية والأكثر موهبة بلا منافس، بل وبهامش هائل يفصله عن الجميع في النوع الفني الجديد (على العرب وعلى مجال السياسة) الذي حوّله لسلاح فتاك في معركة شعبه في الدعاية والتحريض والتوعية والنقد والسرد بطريقة لم يعرفها العرب مسبقاً مطلقاً، بغض النظر عن أي وزن أضافته له فلسطين وقضيتها. لهذا، كان بحق أعجوبة عبقرية فلسطين وكفاح شعبها بامتياز. كان ناجي، أيضاً، الراوي الأكثر أمانة والأكثر سلاسة والأكثر وضوحاً والأكثر شمولاً والأكثر نضوجاً والأكثر فهماً لمأساة شعب فلسطين، وكان كذلك الأكثر إحساساً بمعاناة أهلها والأقرب إليهم. وبرغم ازدحام حقل الرواية وبرغم كثرة الرواة، كان ناجي الراوي الوحيد تقريباً من بين كل طبقة الرواة الاولى الذي لم يساوم أحداً ولم يداهن قائداً مطلقاً حين تعلق الأمر بحقنا في كل ذَرّة من تراب فلسطين. لهذا أصبح ضميرنا الذي يُعَنِّفُنا إن تعبنا أو ضعفنا أو حتى فكرنا بالتخاذل في لحظة وَهْن أو نوبة يأس- يكفي لأي متخاذل أن يرى رسماً واحداً حتى يخجل من نفسه، فناجي كان يرسم بنصل سكين استشهادي، لا بريشة رسام. وسردية ناجي عن فلسطين لم تترك بُعْداً مهما صغر أو كبر إلا واستكشفته بتفصيل وفككته حتى النهاية (الدولي، العربي، الفلسطيني، القومي، الاجتماعي، الخ). والأهم، سردية ناجي عن فلسطين، كانت قصة فلسطين ومأساة شعبها كما عاشها (ويعيشها) وكما رآها (ويراها) أكثرنا فقراً وأكثرنا استضعافاً وأكثرنا اضطهاداً وأكثرنا مظلومية، وأيضاً أكثرنا حباً لفلسطين وتعلقاً بأرضها– لم تكن صدفة أن «فاطمة»، المرأة الفلسطينية الفقيرة بالذات، هي الشخصية الوحيدة من بين كل شخصيات ناجي العلي التي لا تضعف ولا تتعب ولا تُخْدَعْ أبداً، حتى حين يتعب أو يضعف أو يُخْدَعُ زوجها وكل من حولها. لهذا كَسَّرَتْ سردية ناجي، وبسهولة مدهشة، كل أوهام أيديولوجيا المهزومين والباحثين عن الدولة المسخ وفككت سخافة دعايتهم ببراعة. فناجي كان يرى الأيديولوجيا والمصالح والسياسة والدعاية خلف كل ما يقولون ووراء كل ما يفعلون وجعلنا جميعاً نراها بوضوح الشمس.
وفوق كل ذلك، كانت فلسطين هي قضية ناجي الأولى والأخيرة والوحيدة. كانت فلسطين قضيته العامة وكانت فلسطين قضيته الخاصة، كما ينبغي أن تكون لكل فلسطيني. ففلسطين تبدو عنده كأنها قضية العصر وقضية العالم بمجمله، وليست قضية أهلها أو حتى قضية وطننا العربي. ففلسطين عنده تختصر كل القضايا وتختزل كل الأهداف وتختزن كل الدلالات (في الوطن العربي وفي العالم، ومن أصغر مخيم إلى البيت الأبيض). لهذا كانت فلسطين عنده أم كل القضايا وميزان الذهب الذي يزن به كل شيء ويحكم به على كل شخص. كان يعرف أن فلسطين هي كلمة السر في هذا العالم. هي البداية وهي النهاية. كل شيء في هذا العالم يبدأ عندها وكل شيء ينتهي فيها. عرف أن حريتها تحمل في طياتها بذور تغيير هذا العالم. تحمل في ثناياها تأكيداً أن هذا الليل لا يمكن أن يكون أبدياً. تحمل في أحشائها تأكيداً بوجود شمس. كان مثل كاسترو إلفيس البرازيلي بعبقريته، وبصيرته، وجماله، وشجاعته ونبوءته. سقط وهو يرى ما لا يراه ولن يراه أبداً من «ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة». سقط وهو يرى عالماً جميلاً رائعاً يلوح هناك في الأفق يستحق حقاً أن يموت الإنسان من أجله.
مع كل رسم جديد، كان ناجي يكسر حدود الإبداع ويعيد تشكيلها من جديد، فتبدو أبعد مما يمكن لأي مبدع أن يحلم. مع كل رسم جديد، كان ناجي يعيد تعريف معنى مفردة «الموهبة» الفذة، فتغدو أصعب مما يمكن لأي موهوب حقاً حتى أن يتخيل. ففي رسم واحد فقط، قد يبدو بسيطاً لكل من يراه، تجده يجمع بين عبقرية مونتسكيو (الرسائل الفارسية) وإبداع ابن المقفع (كليلة ودمنة). فحين احتجت السفارة الأميركية في الكويت على رسومات ناجي العلي (في جريدة القبس الكويتية) وطلبوا منه أن لا يذكر اسم أميركا مرة أخرى في رسوماته، عاد إلى بيته ورسم اللوحة المدهشة: «تسقط جارة كندا».
رغم كل ذلك، لم تكن الموهبة الفذة أو العبقرية والإبداع وحدها سر جاذبية ناجي العلي ورسوماته فقط، بل، وربما أكثر أهمية، شجاعته الفائقة كذلك. كان فكتور جارا، الشاعر والمغني والشهيد التشيلي، ورفيق سلفادور أليندي محقاً:
«الأغنية التي تُغنى بشجاعة،
ستظل أغنية جديدة إلى الأبد».
تسقط جارة كندا.
* كاتب عربي

رسم عامر شوملي

المثقف الفلسطيني الأخطر… وحيداً في مواجهة «الهيمنة»

سعيد محمد

ناجي العلي ليس مجرد فنان كاريكاتور، وحنظلة ليس مجرد رمزٍ للنضال الفلسطيني. ناجي العلي كان أهم وأخطر مثقف فلسطيني – عضوي، وفق المفهوم الغرامشي تحديداً – خلال تاريخ الشعب الفلسطيني في مرحلة ما بعد 1967. وكانت جرعة الوعي الحاد الذي يقدمّه للطبقة الشعبيّة الفلسطينيّة من خلال الكاريكاتور بمثابة كارثة يوميّة تلحق بالرجعيّة الفلسطينيّة مع صحف الصباح..

حنظلة كان تجسيداً لكل ما يمثله ناجي العلي. والعلي – كمثقف – كان نقيضاً لكل ما يمثله اليمين الرجعي الفلسطيني المهيمن، ورمزه الأعلى ياسر عرفات. رسومات العلي كانت ظاهرة عالميّة في ترفيع فن الكاريكاتور برمته إلى أداة تواصل ثوري مع أوسع القطاعات الجماهيريّة من دون الوقوع في مطب الرطانات النضاليّة والخطابات الخشبيّة التي كانت تستهدف بناء وعي زائف، ولا يستوعب معظمها الفلسطيني العادي المحاصر بالتجهيل والقمع والعزل.
لكن نشوء هذه الرمزيّة النقيضة بين العلي وعرفات، كما تحليل مشروع العلي الفني – الفكري المناضل في مقابل سيرة تعايش منظومة الهيمنة الفلسطينيّة مع مشروع الاحتلال، لا يمكن فهمها اليوم إلا من خلال مقاربة تاريخيّة للأجواء التي أنتجت هذين الرّمزين، والإطار الطبقي الذي هو مسرح صراعهما الوجودي.
الواقع أنه يستحيل نظريّاً فهم تاريخ الشعب الفلسطيني منذ نهايات القرن التاسع عشر إلى اليوم من دون تحليل كلي يأخذ في الاعتبار ذلك التداخل بين منظومتي الهيمنة ــ اللتين أحكم تشابكهما الموضوعي والفعلي السيطرة على مصائر الفلسطينيين ومآلاتهم – منظومة الغزو الصهيوني ودولة الاحتلال الإسرائيلي، ومنظومة الهيمنة الفلسطينية اليمينيّة عبر مراحل تشكلها المختلفة.
الغزو الصهيوني الذي بدأت طلائعه بالظهور في جنوب سوريا منذ عام 1882 وتكرّس دولة معترفاً بها عالميّاً منذ 1948 ثم نواة إمبراطوريّة إقليميّة تتحكم بمجالها الجغرافي منذ عام 1967 وإلى وقتنا الراهن، فرض إيقاعاً شديد السلبيّة لا يزال قائماً كل لحظة على مسار تشكل وصيغ عيش الفلسطينيين ليس تحت الاحتلال المباشر فحسب، بل وكذلك في المنافي ومعازل اللجوء.
لكن مأساة الفلسطينيين الأكبر كانت في نخبتهم اليمينيّة ذات النفس البطركي البغيض التي تولت ـــ بفضل تعاونها الوثيق مع منظومة هيمنة الاحتلال وتشكيلات الهيمنة الموازية في الدول العربيّة ـــ إدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وتوجيهه إلى مرافئ آمنة تحقق غايات الاحتلال مع الحفاظ بشكل أو آخر على مصالحها الطبقيّة الضيقة.
منظومة الهيمنة الفلسطينية هذه بنيت على أساس طبقي محض، ووظفت لضمان استمراريّة سيطرتها كل ترسانة المفاهيم الشوفينيّة والأفكار الأسطوريّة والتابوهات المقدّسة في الثقافة العربية لتلعب أدواراً لا تنسى في ترويض الشعبي الفلسطيني وتمكين مشروع الاحتلال ومحاربة العمل المقاوم، بينما قدّمت أدوات السلطة القمعيّة التي وفرها الجانب الإسرائيلي من جيش وشرطة واستخبارات ونظام سجون وقمع جسدي واقتصادي واجتماعي، عدَّة السيطرة القسريّة عندما تكون القيادة «الشرعيّة» للفلسطينيين غير كافية لتأمين الهدوء اللازم لتمرير المشروع الصهيوني في المنطقة.
بدأ هذا التعاون بين فكي الهيمنة في وقت جد مبكر من تاريخ القضيّة الفلسطينيّة عبر استقطاب الوكالة اليهوديّة رموز الإقطاع وزعامات العشائر ورجال الدين ونواة البرجوازيّة الفلسطينيّة للعمل في خدمتها بطرق مختلفة، وهي دفعت بالتعاون مع سلطة الانتداب الإنكليزي بعد 1917 باتجاه تولي هؤلاء تمثيل مصالح الطرف الفلسطيني في الصراع، فكان تصعيد شخصيات مثل الحاج أمين الحسيني ــ الموظف أساساً لدى سلطة الانتداب ـــ ليكون النظير الفلسطيني لشبكة القيادات العربيّة الموالية للاستعمار: نوري السعيد في العراق، وعبد الله بن الحسين في الأردن، وإبن سعود في نجد والحجاز. وكان ذلك دائماً على حساب أي صعود محتمل لقيادات وطنيّة من طبقة العمال والفلاحين سواء من خلال التصفية الجسدية المباشرة أو أقله من خلال تفتيت قواعد تأييدها بشراء الذمم وتجييش العواطف. كان المفتي شخصيّاً وراء اغتيال بعضهم كميشيل ميتري رئيس جمعيّة العمال العرب في يافا، بينما قتل مئات الأشخاص «الخطرين» الآخرين في ظروف غامضة لم يكشف عن معظمها إلى اليوم. وقد تولت النخبة الفلسطينيّة العميلة حينها تقديم خدمات استخباريّة ثمينة للإسرائيليين ضد أي شخصيات قياديّة قد تتسبب في مشاكل للاحتلال على نحو مكّن العصابات الصهيونيّة من اصطيادهم واحداً واحداً وبالاسم ضمن قوائم مجهزة في اليوم التالي لقيام الدولة العبريّة… ليتكرر الأمر لاحقاً في الضفة الغربيّة 1967 وبيروت 1982، لكن ذلك مجاله مكان آخر.
بطولات اليمين الفلسطيني في إفشال الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 – وهي التي استدعى من أجلها الإنكليز قوات أكثر عدداً من جيشها الذي كان يحكم الهند كلّها إضافة إلى الطائرات والمدرعات الحديثة – لا يمكن إخفاؤها بأي شكل. تذكر المصادر الإسرائيليّة من تلك الفترة أن جهود هذا اليمين في تفتيت العمل الفلسطيني المقاوم كانت حاسمة في تسهيل قيام الدولة العبريّة، إذ أن عدد المقاومين الفلسطينيين الذين حملوا السلاح في مواجهات 1948 لم يتجاوز الثلاثة آلاف إلا بقليل.
تعاون اليمين الفلسطيني في الضفة الغربيّة بعد 1948 مع الأردنيين في تنظيم شؤون الهيمنة المؤقتة على ما تبقى من فلسطين وتآمرت نخبته مع نظام الملك حسين على دفن مشروع قيام جمهوريّة فلسطينيّة مستقلة في مواجهة دولة الاحتلال، وهي ما زالت مستمرة في هذا الدور إلى الآن مع تغير الأسماء والمعطيات والمهمات. لكن تأثير تلك النخبة المحليّة المحافظة القديمة بقي محصوراً في نطاق الضفة الغربيّة مقابل صعود نخبة بديلة من البرجوازيّة الناشئة في المنافي الفلسطينيّة أو من الكوادر التي نجحت في تحقيق نوع من صعود طبقي من خلال الالتحاق بوظائف مجزية ـ نسبيّاً – في دول الخليج العربي.
دفعت إسرائيل وأنظمة الهيمنة في الدول العربيّة المجاورة لفلسطين باتجاه تمكين قيادات من هذه الطبقة لتزعم الفلسطينيين بالنظر إلى الجموح الثوري المتصاعد في أجواء اللاجئين وظهور مقدمات على الأرض لبناء وعي يساري بينهم يقدم مقاربة مختلفة للصراع. لم تكن الأنظمة العربيّة بوارد فتح هذا الباب ليس فقط إخلاصاً منها لمصالح المشروع الصهيوني، لكن أساساً لمنع انتقال نموذج الفدائي المقاوم إلى أجواء شعوبهم الخانعة.
هكذا التقت مصالح كل الأطراف المهيمنة على ترفيع حركة «فتح» اليمينيّة على حساب الجبهة الشعبيّة، وتولى نظام عبد الناصر ــ الشعبوي المعادي بشدة لليسار – تسليم ياسر عرفات شخصيّاً مقاليد تمثيل الفلسطينيين عبر ما عرف وقتها بمنظمة التحرير الفلسطينيّة – التي كانت تماماً بمثابة نظام عربي يميني آخر يتولى إدارة شؤون الشعب المهزوم. كان ذلك في عام 1969 وهو العام الذي كشف فيه ناجي العلي عن «حنظلة»، الرمز النقيض لكل ما يمثله ياسر عرفات كرمز لغلبة منظومة الهيمنة الرجعيّة الفلسطينية بتشبيكاتها العربيّة والعبريّة على مصير الفلسطينيين.
بذلت أجهزة الدعاية الأيديولوجيّة المصريّة المسيطرة على الإعلام العربي في تلك المرحلة جهوداً جبارة لتلميع خط عرفات وشخصه، وقدمته للجماهير العربيّة الهادرة من المحيط إلى الخليج كرمز وحيد لنضال الشعب الفلسطيني، وتعاونت مؤسسات الإعلام العربي والغربي والعبري في تكريس تلك الصورة مع تغييب وتدريجي متعمد للصوت الآخر بالتجاهل والاغتيال الجسدي. قتل غسان كنفاني وآخرون من المثقفين الثوريين وقتها بغرض إطفاء السرديّة الفلسطينية البديلة والمحافظة على صوت واحد هو صوت اليمين الرجعي.
غسان كنفاني بالذات هو من اكتشف ناجي العلي وتلك القوة المبهرة على التعبير التي امتلكها ذلك الفنان المهمش ابن المعازل الفلسطينية في لبنان برسوماته الشديدة البساطة التي كانت أبلغ كلاماً من أطنان الكتب وأطلقهما في فضاء الصحافة.
العلي ــ المثقف الطّالع من عمق الطبقة الشعبيّة الفلسطينيّة ــ بذكائه الحاد وانحيازه السياسي الحاسم، تحّول في جرعات وعي يوميّة ينشرها على شكل كاريكاتورات، إلى ناطق شبه وحيد باسم تلك الطبقة في مواجهة تقاطع هيمنة الاحتلال الإسرائيلي والنخبة الفلسطينيّة اليمينيّة.
النقد الذي كان يقدمه العلي من خلال عدد محدود نسبياً من الشخصيات الكاريكاتوريّة، عكست طبيعة صراع الهيمنة الذي كان يعيشه الفلسطينيون: حنظلة – الوعي – الغاضب دوماً، و«الزلمة» الفلسطيني العادي الفقير والمحاصر، وفاطمة – فلسطين، مقابل المرأة البشعة – طبقة البرجوازية، والجندي الإسرائيلي – رمز الاحتلال – ثم وأساساً نماذج عدة من الشخصيات ذات المؤخرات المنتفخة التي تمثل رموز الرجعية الفلسطينية والعربيّة. وحتى عندما يصدف أن تظهر شخصيّة أخرى كالمسيح، أو ياسر عرفات، فهي تنتمي تلقائياً ـ وفق الرسم ـ إلى أحد طرفي النزاع.
حاول كثيرون نصح العلي بتخفيف انتقاداته لعرفات وسياساته، بل وهو أبعد من الكويت وهاجر بعدها إلى لندن – حيث قتل – بسبب تلك التهديدات والمضايقات التي كان يتعرض لها من قبل أزلام اليمين الفلسطيني. لكن ناجي العلي لم يكن ليكون غير ناجي العلي. وهكذا بدل من أن يهدأ، زاد انفعاله لا سيما بعد 1982. وحتى حنظلة نفسه لم يعد بعدها يكتفي بالوقوف ويديه خلف ظهره، بل حمل الحجارة وألقاها على الإسرائيليين وذوي المؤخرات المنتفخة على حد سواء، وارتفعت لهجة نقده للنهج العرفاتي الاستسلامي والفساد الذي قامت عليه منظومته إلى حد الصراحة المباشرة على نحو لم يعد يمكن التعايش معه.

كان العلي ـ النبي ـــ يعلم منذ اليوم الأول أنه سيدفع ثمن أفكاره من حياته ذاتها. منذ البيان الأول لحنظلة عام 1969، كان يعيش اياماً من زمن مستعار يعرف أنها ستنتهي قريباً. وهكذا كان. يقول تقرير الشرطة البريطانيّة عن اغتيال العلي يوم 22 يوليو 1987 إن منفذ عمليّة الاغتيال هو أحد منتسبي منظمة التحرير الفلسطينية في لندن الذي كان معروفاً لدى الأجواء الاستخباراتيّة كما هو حال معظم كوادر المنظمة بالطبع. وقد غادر في اليوم التالي لاغتيال العلي على رحلة مغادرة من مانشستر إلى قبرص ويعتقد أنه إنتقل منها متجهاً إلى تونس أو الجزائر ـ مقرات عرفات حينها – ، لينقطع أثره بعدها ويختفي عن الأضواء.
حاول كثيرون إلصاق تهمة تصفية العلي بالموساد الإسرائيلي. فالعقل العربي الساذج لم يكن ليتقبل فكرة أن ياسر عرفات – رمز النضال الفلسطيني كما كرسه إعلام الهيمنة – يمكن أن يقتل ذلك الولد المشاغب، فأحال التهمة للعدو الرسمي. ليس ذلك صحيحاً مطلقاً. كان ناجي العلي وحده في ذلك الوقت نقيضاً للهيمنة الفلسطينيّة المتشابكة مع هيمنة الاحتلال. حنظلة الرمز كان الشوكة في مؤخرة عرفات التي تقض مضجعه كل يوم وليلة. و«فاطمة» كبوصلة تكذّب في الصباح كل ما قاله عرفات في المساء. كان «الزلمة» على وشك التمرد وكسر هيمنة أزلام المنظمة الرجعيّة الذين تكيفوا ليصبحوا اليوم سلطة دايتونيّة رام الله. حتى المسيح المصلوب مد بيده ليلقي بحجر على الاحتلال. لم يكن ممكناً أن تتعايش سرديّة الرمز ناجي العلي مع سرديّة الرمز ياسر عرفات. كان لا بدّ من أن يطلق «الختيار» النار على نقيضه ليقتله. لم يكن الختيار ليدرك وقتها أنّ ناجي العلي لا يموت، وأن تغييب جسده كان استحقاقاً لا بد منه لانتصار سرديته النهائي على حساب سرديّة منظومة الهيمنة الفلسطينيّة ورمزها المتهالك في مبنى مقاطعته الهزيلة على ناصية شارع التنسيق الأمني مع الاحتلال.
حنظلة – الذي هو ناجي العلي ذاته – صار أيقونة الفلسطينيين والثوريين عبر العالم، وأفكاره صارت سرديّة أمينة لنضال هذا الشعب لا يمكن لمؤرخ عاقل تجاهلها، وأداؤه الثوري سيبقى أملاً لكل منا بإمكان وجود مثقف عربي ـ غير جديد – يقول لا في وجه «الهيمنة».

يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | thejournalist68@

عين المخيّم التي لا تنام

 عبدالرحمن جاسم

قبل أعوامٍ، وبعد استشهاد ناجي العلي في لندن، نحت شربل فارس تمثالاً للراحل (من الفايبرغلاس والبوليستر والمعدن) ووضعه على مدخل مخيّم عين الحلوة الشمالي (في الشارع التحتاني تحديداً)؛ باعتباره أثراً لفنانٍ شهيد اعتبر المخيّم بيته الأوّل والأخير حتى عودته إلى قريته الشجرة في فلسطين. لم يدم التمثال لأكثر من أشهر. أطلق النار عليه (نعم أطلق النار أسفل عين التمثال) ثم سحل في الشارع، أعاده أحباء ناجي إلى مكانه بعد إصلاحه، إلا أنه سرعان ما عاد واختفى.

هل كان المخيّم يكره ناجي؟ يعرف الجميع في عين الحلوة من هو ناجي العلي وماذا يمثّل. لذلك لا يمكن لأحدٍ أن يكرهه. فقط أولئك المتلمقون لأصحاب النفوذ والسلطة يكرهونه، لأنه لم يوفّرهم أبداً. لذلك حدث ما حدث للتمثال (رغم أنّ جماعاتٍ «تكفيرية» اتهمت بالأمر).
مرةً أسرّ ناجي لأحد أصدقائه بأنه ضاق به الحال من أحد «المستزلمين» الكبار في المخيّم. أشار عليه صديقه بأن يتحدثّ مع أبو فلان أو أبو علان (من الزعماء المحلّيين في تلك المرحلة). رد ناجي الغاضب السريع كعادته كان الجواب الشافي: «بدك ياني أشحد من هدول؟ يا ويلي». ناجي ذهب إلى ذلك المستزلم وواجهه؛ ومن الواضح أنه لم يحدث للكاريكاتوريست الفلسطيني الأشهر أي شيء. لم يكن ناجي ليهادن أو يمرر أو حتى يسامح في حياته.

مرةً أسر لنا الشاعر الفلسطيني الكبير عز الدين المناصرة بأنه وأصدقاء مشتركين بينه وبين ناجي، عرفوا بأنّ الأخير كان مدعواً إلى العشاء عند الرئيس الفلسطيني الراحل أبوعمّار، فقرروا ممازحته بأن يمثلّوا عليه بأنه «خان» أفكاره وباع نفسه للسلطة. لذلك، بدأوا بالخروج حال وصوله إلى المقهى الذي يجلسون فيه، فاستشاط غضباً وبدأ بالصراخ فيهم، بأنه لن يخون «المخيم» الذي أتى منه، وبأنه سيبقى ناجي العلي ذا البوصلة المحددة الواضحة. خرج ناجي من المخيّم وتغرّب عربياً وغربياً، لكن المخيّم لم يخرج من ناجي يوماً. بالعكس، كان كل يومٍ أقرب إلى المخيّم من كثيرٍ من «زعماء» ادّعوا يوماً بسلطتهم على القضية الفلسطينية. عاش ناجي 51 عاماً (تقريباً)، اهتدى إلى «أثيره» حنظلة في عام 1969، وكتب مقدّمةً مدهشةً تشرح قدومه. كان كأي رسام «كوميكس» يقدّم شخصيته «البطولية» للآخرين كي تكون «رمزاً» له ولهم. كان حنظلة يقول ما لا يستطيع ناجي قوله، ويحكي ما يخشى الرسام البوح به. كان حنظلة شبيهاً بـ «الرجل الوطواط» لبوب كاين وبيل فينغر، و«كابتن أميركا» لستان لي، و«تان تان» لهيرجيه؛ فكما كانت هذه الشخصيات رمزاً لأميركا وفرنسا؛ كان حنظلة رمزاً لفلسطين وللمخيمات. كان مؤثراً إلى هذا الحد: شديد الالتصاق بالناس الذين يشبههم ويحادثهم ويتحدّث عنهم. يشبه أي طفلٍ يمكن مشاهدته في أزقة المخيّم الضيقة (الشعر القصير للغاية الذي كانت «تفرضه» مدارس الوكالة/ الأونروا؛ الثياب الممزّقة التي لطالما ارتديناها في الأزقّة وخصوصاً تلك المرقّعة؛ وأخيراً عدم انتعال حذاء). فاطمة ومحمد والفدائي وأبو اللوز وأبو الهمم الشخصيات الأخرى من رسوماته كانت تنضح «محليةً» وعالميةً في الوقت ذاته. فاطمة كانت تشبه أي امراة فلسطينية من المخيّم (وأي امرأة من الأحياء الفقيرة في أيٍ من المدن العربية)، وكذا كان الفدائي ومحمد؛ فيما أبو اللوز وأبو الهمم بكروشهم الكبيرة وثيابهم الثمينة كانوا يقدمون صورةً عن «المتسلقين» و«الانتهازيين» وحتى «المثقفين الكَتَبة» في أي زمانٍ ومكان.
من كان يعرف ناجي إبان حياته، يعرف كم كان حنينه كبيراً لأهله وأصدقائه في مخيّم عين الحلوة. يعرف كم ارتبط بالمخيّم وأهله. كم كان عين الحلوة يعني له حين ترك كل شيءٍ في بيروت خلفه إبان اجتياح عام 1982 وذهب إلى مخيّمه وخرج منه بأعجوبة بعدما ظنَّ زملاؤه في الرحلة بأنه قد استشهد. اليوم؛ يقبع مخيّم عين الحلوة تحت النيران من جديد؛ تتغيّر مسميّات القتلة، وحده حنظلة لا يزال ينظر إلى ما يحدث، وينظر صوب فلسطين في انتظار عودته، لا أكثر ولا أقل.

يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | abdalrhmanjasim@

هناك من سيواصل الطريق

طارق حمدان

بينما كانت الرصاصة تقطع الطريق من فوهة المسدس إلى رأس ناجي العلي، كانت رصاصات أخرى تطلق على مشروع تحرر وطني، على فلسطين التاريخية وعلى ملايين الفلسطينيين خارج الوطن المحتل وداخله. في واحدة من رسومات العلي، يظهر أحد الإسرائيليين وهو يصلي «اللهم ثبت شرعيتهم وأكثر من قادتهم واجعل زعماءهم بعدد المستوطنات.. لنطمئن إلى الأبد!».

الوعي، هو أخطر ما يمكن أن يتصوره أي مستعمر أو أي سلطة شمولية، فالمطلوب إنسان خانع بلا وعي ولا كرامة، ووجود العلي لم يكن في مصلحة أي من اللاعبين وقتها، لا الاحتلال ولا بعض القيادات الفلسطينية التي فرطت بالحق الفلسطيني، ولا حتى الأنظمة العربية التي كثيراً ما لعبت دور المتواطئ. كان يواجههم جميعاً عارياً إلا من أقلامه وصفحاته البيضاء، وكان هذا كافياً لزعزعتهم ودب الرعب في قلوبهم. فنان يقلب الطاولة على الجميع ويرحل قادراً على مطاردتهم حتى بعد ثلاثة عقود على رحيله.

كانت مهمته أن يرى عيوبنا، كفلسطينيين وعرب، مهنته النقد وهذه مهنة صعبة في مجتمعات تخاف النقد وتحاربه وتشيطنه. نقد البيت الفلسطيني السياسي وحتى الثقافي كان من أولوياته. لطالما فضح الزيف والفساد، ووضع العراقيل أمام الصورة التي كانت تريد ايصالها النخب السياسية (المعصومة عن الخطأ) أو حتى النخب الثقافية التي «يحق لشاعرها ما لا يحق لغيره». كان مرآتهم التي أجبرهم أن يروا فيها عيوبهم، وهذا كان يكفي ليخلق له الكثير من الأعداء. لم يكن لديه آلهة ولا رموز ولا خطوط حمر، لا يعرف سوى خط أحمر وحيد هو التطبيع والحديث مع المحتل. كان عدو الأنظمة المسيطرة وتلك الخانعة، ضد المنظومة الفلسطينية الآخذة معالمها بالتشكل في الثمانينيات، وضد كل المؤسسات ما دامت فاسدة وذات بوصلة معطوبة؛ كأناركي يقف وحيداً في مواجهة من تحولوا إلى سياسيين ورجال أعمال، ومنتفعين على شكل موظفين وعمال مياومة، هو الناجي بكرامته، خلافاً للناجين بالسلطة والمال. كان يخاف المال وينظر إليه كمفسدة تحرفه عن طريق النضال. لم يفكر يوماً بسلطة ولا بأضواء، الفنان الذي شغل العالم العربي قاطبة، قلما نجد له حوارات في جرائد أو لقاءات مصورة، إذ كان يعيش لمهمة واحدة متمثلة في مقاومة المحتل وفضح الضعف والعهر السياسي الذي لطالما كان أداة لذاك المحتل.
لهذا نجده الآن حاضراً في كل شوارع فلسطين، ابن المخيم حافي القدمين لا أحد تواجد في فلسطين كما يتواجد فيها الآن؛ أيقونة للكرامة والمقاومة لا الخنوع والاستسلام.
من قتل ناجي العلي سؤال قد يهم عائلته، وخارج ذلك تتضاءل أهمية الإجابة عليه. لا يهم فعلاً أن نعرف من قتل ناجي العلي بالتحديد، أو تفصيل إلى من تنتمي الرصاصة الغادرة، قُتل الفنان من الخلف حاله كحال شعب بأكمله ما زال يقتل من الخلف منذ أكثر من ٧٠ عاماً بأدوات وجهات مختلفة كلنا يعرفها. من استهدف ناجي العلي كان يستهدف الوعي الفلسطيني والعربي. لكن هذا الوعي الذي حورب بالرصاص والمؤسسات على مدى عقود سيبقى قادراً على مفاجأة خصومه دائماً، ستندلع الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعد بضعة أشهر على اغتياله، قبل أن تخمدها كروش لطالما ظهرت في رسومات الفنان، ذاتها الكروش التي ما زالت تتحكم حتى الآن بمصير شعب تم تشريده وسرقة أرضه. لكن هذا الوعي سيظل يطاردهم، نصادفه كل يوم في أزقة وشوارع الوطن المحتل، شهدناه الشهر الماضي في ساحات القدس «يدق ساري علم فلسطين في تراب الوطن» متمثلاً بجيل جديد يرفض الهزيمة و«الحلول السلمية» التي طحنت الكرامات وضيّعت الحقوق. جيل كان للتو قد دخل العالم فاتحاً أعينه الحمراء على حديد يحرث السماوات والأرض؛ بينما كان العلي يرقد في مشفاه في لندن واثقاً بأن «هناك من سيواصل الطريق».

رسوم غير منشورة لناجي العلي، خصّت بها عائلة الشهيد، مشكورةً،

جريدة «الأخبار»

كلمات