«كاسك ميشال»/ مرسيل خليفة

لا يسعني تذكّر طفولتي بدون أن أتنفّس هواء ذلك الجوّ المفعم بالسُّكرْ في «المَرْفَعْ».
وكان النَّوَرْ المرابطون على جسر الدجاج العتيق يؤلفون فرقة فنية صغيرة قوامها البزق والطبلة والرقص الغجريّ الساحر.

كان والدي يدعوهم لمشاركته لكأسْ العرق وكان مذاق الكأسْ يخاطب بالروح والعينين المازات الرائعة المنتشرة على الطاولة. والأطباق الآتية من كل حدب وصوب في حيْ «العَرْبةْ» تثير فينا النشوة. وميشال مهندس الجلسة يصدر الأحكام ببلاغته المعهودة: ملح زائد. زيت قليل. ناقص حامض.
وكان الاجتماع في ذلك اليوم حول كأس العرق يشبه الطقس الروحي. نحتفل بنعمة الوجود والاجتماع العائلي، ونعيش في جوّ من المحادثة اللذيذة، ونفتح آفاقاً لحياة أخرى يمكن تذوقّها مع الغناء والموسيقى والرقص، ويتحوَّل اللقاء إلى نوع من الحب مع الجالسين والوافدين والعابرين.
وتدور الحفلة، وآه، ما أحلاك يا ميشال! وما أحلى ذلك النغم البدويّ الساحر، وتلك الرقصات الانثويّة العارمة.

كنّا ننتظرهم من مَرفع إلى مَرفع لنحفظ أغانيهم عن ظهر قلب، ثمّ نعود لنتابع الجلسة لوالدي – المنتشي: أطربق على «سكنبلة» خسعة وأحياناً على طنجرة كبيرة وتشاركني أختي فترقص على إيقاع حفظته واجادت تطبيقه.

ما زلت لليوم، أسمع صدى تلك الأغاني والايقاعات وتطييبات والدي ترّن في بالي. وذلك الصدى الجميل لم يستطع هذا الزمن الطويل أن يسكته.

وكم كانت تطول تلك الجلسات، ونظلّ الى أن يرتفع القمر فوق الجبال العالية. يدخل من الشباك الشرقي، ناثراً ضوءه الفضّيْ، ومنه ينتشر هواء الليل.

يدخل القمر من النافذة الشرقيّة ويخرج السكر من الباب الغربي.

من الشرق تلال جميلة لكنّها تقفل المدى، أمّا باب البحر فمفتوح على الازرق، يخرج منه السكر أخوياً متسامحاً متصالحاً متآخياً متراخياً متثائباً متعانقاً… متشبثّاً بالموج باللوز بالموز بالموت تحاشياً للغرق.

لم يكن والدي في ذلك الموعد السنويّ يفوته أي شيء. كان يعشق الأغاني والكأس والوجه الحَسَنْ. وكان القمر يحيط بالضيعة بوشاح من الأسرار.

كاسك أبو الميش

لا مرافع بعدك

لا موج يعلو سكرك !…

أحبك.