بعض من سيرة حياة أمّي السيّدة نهلا قديح

المهندس بشار خليل ترحيني

نشأت والدتي السيدة نهلا قديح في النبطيّة في عائلة علمٍ وأدبٍ وأخلاق، في كنف أبيها الاستاذ والشاعر حسين قديح ووالدتها زينب بشارة من أولى حاملات شهادة السرتيفيكا في المنطقة.  اوّل ما تعلّمته من والديها كانت دروساً في الحريّة والثّورة والعدالة، فشدّت عودها باكراً لتكون عريفة في كشافة التربية الوطنية عام1955  مندوبة في المخيم الكشفي العربي الأوّل. وسرعان ما التزمت بقضايا الوطن والأمّة مناضلة في السابعة عشرة من عمرها، في صفوف القوميّين العرب، مع رفيقاتها المربية المناضلة فريحة الحاج علي والمربية الشاعرة ليلى نصار؛ واعيةً للمؤامرات التي تستهدف وطننا العربي لتمزيقه من خلال بث التفرقة والنفخ في أتون الفتن الدينية والمذهبية والإستعمار الشّرس وهوله على الشعوب العربية من التقسيم، الى استلاب فلسطين، رافعة مع رفاقها شعارات الوحدة والمقاومة والعدالة الاجتماعية.

كانت تقصّ علينا تنقّلها من النبطيّة الى جباع مشياً على الأقدام لتوزيع بيانات الحركة و أفكار مؤسسيها جورج حبش وهاني الهندي او الدّعوة الى ندوة للاستاذ محمّد الزيّات في قاطع النَّهر..

ويوم شاركت وفد حركة القوميين العرب لتهنئة عبدالناصر في دمشق، يوم الوحدة، وأعاقت الثلوج في البقاع والسلسلة الشرقية وصولهم، وتم تزويدهم بالمؤونة حتى أقلّتهم طائرة مروحية الى دمشق للقاء الزعيم البطل.

ويوم كانت في طليعة مظاهرات الطلبة في بيروت تضامناً مع الثورة الجزائرية هاتفةً :

الجزائر عربية

يا طلاب الحرية

والتي انتهت بضربات سلطة الجيش، محاولين اعتقالها وكيف تكاتفت التظاهرة لحمايتها.
وهكذا ثابرت في العمل النسائي وتحرّر المرأة وتقدّمها، فكانت من النواة المؤسسة لجمعية تقدّم المرأة في النبطيّة الى جانب السيدة سلمى علي أحمد وعضوة فاعلة في لجنة حقوق المرأة ومؤازرتها للقضية الفلسطينية وسائر قضايانا العربية. وكانت تحدّثنا عن نضالات المرأة العربية وتعرّفنا وتلقننا أسماء الثائرات ضد الاستعمار الفرنسي: المغربيّة رحمة حموش والتونسيّة مجيدة بوليلة والجزائريتان جميلة بُحيرد ولويزة أحريز، وربّتنا على فهم العمل الفدائي الفلسطيني فزينت دفاترنا بصور ليلى خالد ودلال المغربي وتيريز هلسة.

أمي كانت تحوّل سهراتنا مهرجانات للشعر والنثر والتباري بالحكم والأمثال العربية وسوق عكاظ في مكتبة أبي المتراصّة الغنيّة حيث كنّا نتحسس الكتب وأوراقها ورائحتها..

وعلّمتنا الإستماع إلى الموسيقى والطرب الأصيل، فكانت سهراتنا الصيفية على ضوء القمر عامرة بألحان السنباطي وشعر أحمد شوقي وصوت أم كلثوم.. وقصّة أم كلثوم مع الغناء منذ صغرها في فرقة أبيها المختصة في التجويد القرآني الى جانب أخيها خالد، مقنعةً بزيّ صبِيِّ حتى ابدعت بصوتها في إحياء ليلة الإسراء والمعراج بقصر عز الدين يكُن التي كانت بداية رحلتها الى كوكب الشّرق.

الى جانب مهنة التعليم والتربية كانت أُمِّي معلمتنا في البيت. تشاركنا دروسنا في المواد كافة وخاصة مادة الرياضيات. كانت تلقننا قوانين الهندسة وصفات الأشكال الهندسية من دون كتاب، كنّا نرددها كاستظهارات في المطبخ وهي تعد طهي الطعام.. ويوم فقدت محبسها في «كانون» الفحم ولم نجد له بعدها من أثر، لدى شرحها المكثف لي لمعضلة هندسية معاتبةً: إياك ألَّا تصبح مهندساً!!

وكانت أستاذتي في الرياضيات حتى شهادة الMaths Elem.. وأتممت العقد معها يوم وافيتها بشهادة الماجستير بالهندسة، فبادرتني بقولها: «هذه قيمة محبس زواجي الذهبي!».

أربعة عقود من العمل هو مسارها المهني كمربية ومعلمة لتتفرّغ في تقاعدها إلى جانب والدي، للعمل الاجتماعي، وفي الشأن العام؛ فكانت المبادرة إلى تأسيس «جمعية أصيلة الثقافية» ثم انتسبت الى «التجمع العلماني الديمقراطي» لتلتقي فيه برفاق الأمس، من قوميين عرب وشيوعيين وبعثيين وغيرهم، مناضلة لمجتمع مدني عادل ومتقدم. فخاضت معركة ترشحها إلى أوّل مجلس بلديّ في عبّا، لكن ذلك ولَّد حالة رفض ذكوريّة عنوانها: «وهل خلت البلدة من الرِّجَال؟»، فتنازلت بترشحها لإبنها، اخي السيد، وخاضت معركته منتصرة بجانبه.
هذه بعض الجوانب من حياة وشخصية سيدتي الوالدة، المتعددة، المتألّقة الكونية.

أُمّي..

عوَّدتِنا على إشراقتك المنيرة وعنفوانك الأصيل وقوّتك الجيّاشة ونباهتك الواسعة..

انت النّاصِعةُ حبّاً وبهاءً.

كيف لابتسامتك المتثاقلة ان تختزل نبراس الحياة المفعم بمقاومتك المرض العُضال و تجَبّركِ على الوجع اللّئيم ؟

اعتدنا طوال حياتنا على عزيمة قرارك وصلابة موقفك وأريج حنانك بآن، كيف لنا ان نسوغ طيب نظراتك وهي تفتّش في فضاءاتنا عن انتمائنا لقضاياكِ..؟ ومن معركة لأخرى كنت منتصرةً متألّقة، حتى خضت أم المعارك، غير آبهةٍ، وقاومت ثم قاومت ثم قاومت حتى النهاية..

ستبقى سرواتك الشامخة منتشرة بالعزّ وأغاني الرِّيح ورفرفة طيور العشق على أكتافها وتعلو سفح ألوان الزهور الباهية بعروق يديك.. كحلت عيوننا بورق التّوت والزّيتون وطيّبت جروحنا بعصارة الطيّون..
فكم لنا أن نضمّد جراحك بدفء الحبق المتواري على أطراف الحديقة، ينتظر أناملك لينشر حبه؟؟
ويمضي الوقت على مهلٍ، يطوي فينا معطف الأيّام على ظلال العمر ونستيقظ لنشرب قهوتك الصباحيّة المُرّة وكوب الماء المغسول من ندى ورودك المصفوفة في جَنّة بنيتِها بنفسك، صارت فردوسنا وهديل أحلامنا، والأصوات متعالية ضاحكة، تقهقه لمجون الحياة ورشاقة جذعها المنتصب الى فضاء تعلوه فضاءات، يراوغها سديمٌ لا طعم له ولا رائحة.

وانت المناضلة الحالمة المنتصرة!

تثاءبت الورود في الأحواض أمام البيت، وفاح الحبق بحنانك و الياسمينة الكبيرة تسأل عن وجهك و يديكِ..

عودي لها لتفرح بك من جديد!

قصيدة
*******
أُمّي…
أنا القَمَرُ العَسْجَدِيُّ

حَارِسٌ على بابِ دارِك

وعلى ثَناياكِ الشّجينَة

فلا تربطيني بخَيْطٍ

و لا بخُصلةِ شَعْرٍ

ولا تَرْميني بِبِئرٍ

فسَطْحُ الماءِ مِرآةٌ

لخَباياكِ الدّفينَة

من منديلِكِ سَرَقْتُ

لوعةَ الأيّام الثّقيلة

ومن أثلامِ يديك زعتراً

كانَ الصّخرُ دَليلَهْ

ومن ساعِديْكِ

شَقائقَ النُّعْمانِ حِيلَة

ومن وَجهكِ المُضيءِ

حِصادَ السَّنابِل ِغيلَة

فما بينَ البَيْنِ والبَيْنِ

رِحابُ خُلْدٍ

وبَسْمَةُ فُلٍّ حَزينَة

وما بينَ اللّقاءِ والوداعِ

زَمَنٌ واعِدٌ لمَوْتٍ

يَزِفُّ للحينِ حينَهْ

******
* كلمة المهندس بشار خليل ترحيني (إبن الفقيدة) في ذكرى اسبوع على وفاة والدته المربية الحاجة نهلا حسين قديح (إم بشار) في حسينية بلدة عبا – قضاء النبطية .

الأحد في 21 كانون الثاني 2017