تمام الأكحل واسماعيل شموط… تلك سيرة فلسطين

من ذكريات الطفولة في يافا إلى صقيع المنافي

في «اليد ترى والقلب يرسم ـــ سيرة تمام الأكحل وإسماعيل شموط» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت)، يبدو قدر الفنانة المعروفة ملتحماً بتاريخ فلسطين التي نقلتها إلى لوحاتها، مجسدة محطاتها المؤلمة على مدى خمسين عاماً. مع رفيق دربها اسماعيل شموط، أحد أبرز رواد الفن التشكيلي الفلسطيني، نقرأ في الكتاب سيرة ابنة يافا على خلفية تاريخية واسعة ومتشعّبة تعكس التحوّلات والخضّات السياسية التي مرّت بها المنطقة والعالم

زياد منى

يحوي «اليد ترى والقلب يرسم ـــ سيرة تمام الأكحل وإسماعيل شموط (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت ـــ تحرير غانم بيبي ــ تقديم الياس خوري) مجموعة كبيرة من المصوّرات وملحقاً بالمصورات الملونة. المرة الأولى التي سعدت بها بلقاء الفنان الكبير الراحل إسماعيل شموط (1930 ــ 2006) وزوجه المبدعة تمام الأكحل (1935) كانت ـ على ما أذكر ــ في طرابلس الغرب عند عقد الدورة الأولى من «معرض طرابلس الدولي». كنت وبعض الفلسطينيين المقيمين في ليبيا في سن الصبا، مع مجموعة من الشبيبة الفلسطينيين من موظفين ومعلمين، متحمسين، كما أبداً، لنقل الصورة الحقيقية لمأساتنا.

نتجمع في مكتب «منظمة التحرير الفلسطينية» في شارع عمر المختار، الذي افتتحه الراحل الكبير أحمد الشقيري، ونحاول إنجاز صفحة فلسطين أسبوعية في إحدى الصحف الليبية، وأظنها كانت «الحرية». ما إن وافقت السلطات الليبية على منح فلسطين جناحاً في المعرض، حتى بادرنا إلى جمع كلّ ما يمكن من التراث الفلسطيني لعرضه. وقتها، حضر الراحل الكبير، إسماعيل شموط، وتعرفت إليه، حيث كنا نساعد في إعداد الجناح ومواده وعمل مجسم لفلسطين الطبيعية والسياسية.
وقتها لم أكن أفهم ما الفن، وكيفية تقدير لوحة ما، لكنني أذكر أنّ ما رأيته من أعمال الفنانين المبدعين التي كانت تُعدّ للعرض أثرّ فيّ. لكن شهادتي، الفلسطينية، تبقى جريحة، لأنها كانت كمن يرشّ الملح على الجرح المفتوح.

لوحة «القدس في عيون تمام»

مرت الأيام والسنون لأسعد بلقاء السيدة الفاضلة تمام الأكحل وإسماعيل شموط في دورات المعرض اللاحقة، ومن ثم في بيروت ومن بعد في ألمانيا «الشرقية»، حيث حظيا بما يستحقان من اهتمام استثنائي من الأصدقاء الشيوعيين.

والآن أعود للقاء بالفنانين الفلسطينيين عبر صفحات هذه الذكريات التي كتبتها السيدة تمام الأكحل، بلغة ممتعة، وسرد كأنه الرسم بالكلمات، فيكتشف المرء مجال إبداعها الآخر الذي لم يظهر لنا من قبل.

صورة الذاكرة الأولى

ذكريات الكاتبة المسجلة بين دفتي هذا المؤلف تغطي، كرونولوجياً، الفترة الممتدة من البدء، في فلسطين، في عام 1946، حيث تروي ذكرياتها عن سنين الطفولة في يافا، عروس البحر المتوسط، والأحوال التي كانت سائدة في الوطن المغتصب، كما عرفتها هي. تذكر جرائم الاستعمار البريطاني بحق الشعب الفلسطيني ودعمه اللامحدود للعصابات الصهيونية التي كانت تنفّذ مخطّطها الاستعماري للاستيلاء على وطننا وطردنا منه.
نتعرف في هذه الذكريات على بيارات يافا وعطر ثمر البرتقال والمباريات الرياضية التي كانت تُقام في نهاية العام الدراسي، وحضور الفرق الكشفية والموسيقية.
ذاكرة تمام الأكحل تنتقل لوصف الحياة اليومية في بيوت الفلسطينيين، ومن ثم لوصف بيوت يافا القديمة، التي تحوي «قاع الدار» المكان المحبب للكاتبة. كما تتذكر الجيران والأقارب في المدينة والوطن المغتصب، وفرحها بالاحتفال مع الجيران والأصدقاء المسيحيين وتشاركها هي وإخوتها في أعيادهم في كنيسة الخضر الواقعة خارج سور المدينة القديمة، وكيف كانت تقبّل يد الخوري لتحظى منه بأيقونة لمريم العذراء أو ليسوع وغيرهما، فترسم لنا بالكلمات صور الحيوات هناك، فيظن المرء أنه ينظر في لوحة فنية شاملة وليس لصفحات من مؤلف.

جمال عبد الناصر مفتتحاً معرض «اللاجئ الفلسطيني» والدكتور فوزي الغصين إلى يساره، ثم اسماعيل شموط

تمام الأكحل اكتشفت ولعها بالفن بنفسها. كان قرارها منذ الصغر التفرّغ له، مهما كانت الصعاب. نتحدث نحن هنا عن فترة شهدت مقاومة الشعب الفلسطيني للاستعمارين البريطاني والصهيوني، وما تلا ذلك من تهجير. ترسم بالكلمات ظروف التهجير، فتكتب: «28 نيسان 1948 كان يوماً لا ينسى… [هجم] الجنود الصهاينة على البيت وأمروا الساكنين بالمغادرة… يللا برة برة… لعبد الله» [والمقصود هنا كبير السحرة عبد الله بن الحسين] الذي باع هو وأشقاؤه ووالده فلسطين مقابل قبولهم عملاء رسميين للاستعمار البريطاني. حولت الكاتبة هذا التهجير إلى رسم بالألوان في جداريتها «الاقتلاع من يافا».
وقتها، لم يكن ثمة من مكان للفن، فالوطن يغتصب، والتهجير قاس والمال قليل، زاد منه مواقف حكومات سايكس بيكو العدائية تجاه الفلسطينيين واتهامها الباطل لهم بأنهم باعوا بلادهم، والهدف هو إخفاء جرائمهم وتشاركهم مع الحركة الصهيونية والاستعمار البريطاني في المؤامرة على تقاسم فلسطين.
الظروف المحيطة بها وبعائلتها في المهجر الطوعي/ الإجباري في لبنان تأتي بعد ذلك. عندها، تعود صورة الوطن المغتصب لتلاحق العيون الحزينة، فتتذكر تمام الأكحل «تل الصافي» والأيام السعيدة التي كانت تقضيها هناك، وسط الفلاحين ورؤية حلب الماشية وزريبة الأغنام وخبز الطابون مع «الخروف الزرب» والقمح الجاهز للحصاد.
تطرقت الكاتبة إلى أحوال العيش في لبنان والانتقال إلى ظروف العوز الشديد واضطرار الأهل للعمل: «كان على الفلسطينيين أن يقفوا متراصين في طوابير مذلة، من شباك إلى آخر، ومن ختم لآخر، من أجل الحصول بعد خمسة عشر يوماً على إذن بالعمل لمدة شهر واحد، وإذن سفر لمرة واحدة». كان على الفلسطيني طلب إذن دخول للمخيم في بيروت (مخيم صبرا) لكن برفقة نفر من المكتب الثاني الذي كان يسجل كل كلمة تقال، ويعد أنفاس الحضور.
ثم تذكر الصعوبات التي كانت تواجه الفلسطيني في الدخول إلى سوريا في ذلك الوقت عندما توجهت بالحقيقة إبان رحلة مدرسية إلى الشام.

لوحة زيتية لتمام الأكحل بعنوان «شوشانا فنكلشتاين تحتل بيتي وتحوّله إلى صالة عرض وأغلقت الباب في وجهي»

في لبنان، اكتشف تمام الأكحل مجدداً ميولها الفنية، فرسمت بخصلة من شعرها أولى لوحاتها عن مأساتنا في فلسطين. ثم حظيت قدراتها الفنية برعاية خاصة في كلية المقاصد للبنات التي التحقت بها، وتتذكر تفاصيل مدخل الكلية والإدارة، والمديرة العامة الآنسة زاهية دوغان والوكيلة الآنسة إحسان المحمصاني. قُبلت فيها من منطلق أن «التعليم في فلسطين كان أرقى [من غيره في بلاد العرب]».

المعرض الأول

رحلة تمام الأكحل الفنية بدأت «رسمياً» بمشاركتها في معرض لوكالة الأونروا في عام 1952 وحصولها على جائزة مقدارها 15 ل.ل. بعدها، بدأ وضعها الشخصي بالتحسّن، مادياً. حصلت عام 1953 أخيراً على حذاء باللون الأبيض. لن تكون مضطرة لصبغه باللون الأسود في فصل الشتاء، أو استعارة ملابس «لائقة» من الأقارب لحضور معارضها.
في معرض الخريف السنوي في قصر اليونيسكو، التقت الفنانة الطليعية عام 1953 باشتيفان لوكاش، الفنان الألماني وعضو لجنة التحكيم، الذي توقع لتمام مستقبلاً باهراً، وساعدها على صقل موهبتها. كما تذكر مساعدة الفنان اللبناني مصطفى فروخ في التخصص وتحصيل منحة دراسية من إدارة «المقاصد» لدراسة الفنون في القاهرة. وفي الوقت نفسه، تتذكر فناني ذلك الزمان ومنهم عمر الأنسي وخليل زغيب، والنحاتين الإخوة بصبوص والفنان قيصر الجميل، وتأثرها بهم.

اللقاء الأول بإسماعيل شموط

تخصص الكاتبة والفنانة المبدعة قسماً من ذكرياتها للإسهاب في الحديث عن رفيق دربها ورفيقها وصديقها وزوجها، وظروف اللقاء الأول، واللقاءات التالية، والأحوال المحيطة بالعلاقة بينهما، فيتنشق المرء من كلماتها مدى حبها للراحل الكبير، واحترامها له، زوجاً ورفيقاً وصديقاً، وتشاركهما في حلو الحيوات التي عاشاها، ومرها.

لوحة «إلى أين» التي تعتبر من أشهر أعمال شموط في بداياته في سنة 1952

طلبت من جميل شموط كتابة شهادة خاصة عن حياة الطفولة وتباشير الموهبة الفنية لدى شقيقه إسماعيل التي غذاها الأستاذ داود زلاطيمو. كما تحوي الشهادة هذه تفاصيل الأيام الأخيرة في مدينتهم اللد التي احتلتها العصابات الصهيونية بتآمر فاضح من دول سايكس بيكو، وكيف خلد إسماعيل شموط ذلك في لوحة «العطش على طريق التيه»، والانتقال للعيش في خيمة تحولت في ما بعد إلى مخيم خان يونس. وقد خلدت المخرجة نورا الشريف هذا الخروج في فيلم «إسماعيل – 2013».
الفنانة المبدعة تتذكر، طبعاً، تفاصيل اللقاء الأول بإسماعيل شموط خلال التحضير لمعرض فني أقامته جامعة الدول العربية تحت عنوان غريب هو «اللاجئ الفلسطيني»، وافتتحه الراحل الكبير جمال عبد الناصر، الذي أمر بابتياع لوحتين وإرسال واحدة إلى مقر بعثة الجامعة العربية في الأمم المتحدة… لتكتشف بعد سنين أنها بقيت مهملة في صندوق «لأن السيد المدير لا يحب اللوحات الحزينة»!
تتذكر الكاتبة «بعرفان ومودة» الفنانات والفنانين الكبار الذين تتلمذت عليهم ومنهم العميدة زينب عبده، وزينب محمد علي، ومدام عياد الإيطالية، وزوجها راغب عياد، وجاذبية سري، والنحات جمال السجيني، وحامد ندّا وزوجه الفنانة تحية حليم، وحسين بيكار، وعلاقاتها بفنانين، ناشئين وقتئذ، منهم بهجت عثمان، وجورج البهجوري، وصلاح جاهين، وصالح رضا وإنجي أفلاطون.

الانطلاق نحو العالمية

في عام 1957، أعلن عن قيام مهرجان الشباب العالمي السادس في موسكو، وانتدبت مصر 15 فلسطينياً للمشاركة تحت اسم فلسطين كون «قطاع غزة» يقع تحت حكمها، وأنيطت برابطة الطلاب الفلسطينيين في القاهرة التي كانت بقيادة ياسر عرفات وصلاح خلف رعاية الوفد الفلسطيني الذي انضم إليه من ميناء اللاذقية الشاعر الفلسطيني الراحل أبو سلمى. اختيرت تمام شموط للمشاركة في المهرجان، لكن على نحو سري كون لبنان يمنع السفر إلى الدول الشيوعية في ذلك الوقت، فتسلم المشاركون، جميعاً، جوازات سفر أصدرها الاتحاد السوفييتي. تتذكر الأكحل المشاركين من الوفد المصري ومنهم الراقصة نعيمة عاكف، والمطربة فايدة كامل، والنحات جمال السجيني، وفرقة رضا. تسهب الكاتبة في الحديث عن حفاوة الاستقبال الذي حظوا به في مختلف المدن السوفييتية التي مروا بها في طريقهم إلى موسكو، فكان لذلك أثر كبير في الفلسطينيين الذين كانوا يعانون الاضطهاد في بلاد أنظمة سايكس بيكو. في موسكو، شاهدت تمام الأكحل مدينة ملاه وألعاباً بهذه الضخامة والارتفاع، ثم إلى الجامعة ومن بعد إلى مسرح البولشوي. ملاحظة أن العرب عمدوا إلى تجاوز الدور في الطابور الطويل، فكانوا يقولون للمحتجين السوفييت «ناصر» كي يفسحوا لهم المكان للحصول على التذاكر.

قبل عام 1948: اسماعيل شموط أمام مرسمه الأول في اللد حيث كان يعمل على تزيين فساتين العرائس

«ناصر»، كتبت تمام، كانت كلمة السر «كافية لفتح الأبواب وتجاوز المنتظرين… ترفع رأس العربي، وتسمح بالدخول بابتسامة، وكثيراً ما كان أحدهم يهدي شارة أو وردة إلى أي عربي ينسب نفسه إلى «ناصر»، رمز التحرر». تتذكر أيضاً اللحظات العصيبة التي مرت على المنطقة ومنها العدوان الثلاثي على مصر وأحداث 1958 في لبنان ونزول قوات المارينز (تورد الأكحل أنّ الرئيس اللبناني كميل شمعون هو من طلب حضور القوات الأميركية إلى بيروت، لقمح الانتفاضة ضده، لكن الوثائق المفرج عنها تقول إن الرئيس الأميركي آيزنهاور أمر كميل شمعون بطلب إنزال القوات الأميركية في بيروت). كانت تمام الأكحل في ذلك الوقت مثال الآنسة المتحررة، التي تحظى باحترام عائلتها ومجتمعها الصغير والكبير. كانت تحصل على إذن بالسفر إلى خارج البلاد وحدها أو أن تقضي إجازة مع صديقاتها في مصر، من دون مرافقة أو رقيب، ما يعكس مدى رقي الفكر الذي دعمها للانطلاق نحو آفاق لا حدود لها. هي المرتبطة بفلسطين حتى نخاع العظم وعلى معرفة وثيقة بقيادات «فتح» اللاحقة، ومعها رفيق دربها وصديقها وزوجها اللاحق، إسماعيل، رفضت في الوقت نفسه الانضمام إلى أي تنظيم. تنظيمها كان الفن، والرسم، عن فلسطين التي تجمع كل الفلسطينيين الوطنيين. أكثر من ذلك، اكتشفت مبكراً مدى ارتباط الحركات الإسلامنجية بالاستعمار الأنغلو-أميركي، فنفرت منها ورفضتها حتى قبل أن تفضح أنفسها وارتهانها للغرب الاستعماري.

العرس الصامت

المبدعة الفنانة والكاتبة أيضاً تسهب في الحديث عن علاقتها بإسماعيل شموط والأزمات التي سادت تلك العلاقة، بسبب تدخل الأهل مرات، وبسبب سوء التفاهم مرات أخرى. لكن المرء يحس بمدى حبها لزوجها الذي تراه يتخلل بين حروف اسمه وفي الكلمات التي تتحدث عنه. تحدثت عن الخطوبة الأولى وفسخها ثم عن الخطوبة الثانية التي قادت إلى نهاية سعيدة للطرفين. لم يتسن لإسماعيل شموط كتابة مذكراته، تاركاً لوحاته تتحدث عنه وعن معاناته كونه فرداً في شعب شُرّد وظُلم ولا يزال يعاني. جاءت كلمات تمام في هذه الذكريات عاكسة مكانة إسماعيل في قلبها وفي مجتمعه، وفي عالم الفن أيضاً، فتجده حاضراً في كل جملة في الذكريات. أسهبت في الحديث عن العرس «الصامت» المختلط في يوم 10 أيلول (سبتمبر) 1959 الذي جمعها بإسماعيل وعن الطاولة «الفقيرة» بما عليها من سندويشات كبيرة وأكواب وأطباق من الكرتون وكعكة العرس التي تشبه كعكة العيد لأن المحل المشهور نسي أنها لعرس حضره، ضمن آخرين، خليل الوزير وصلاح خلف وشفيق الحوت وياسر عرفات. تحدثت تمام الأكحل عن أول معرض للزوج المبدعين في بيروت نظمه «النادي الثقافي العربي» في مقره في رأس بيروت في شهر نيسان (أبريل) 1960، وكان، بكلماتها، حدثاً لا ينسى حيث عرض الفنان الراحل ثلاث لوحات كبيرة جداً، أولها يمثل ربيع فلسطين وفيها ترقص الفلسطينيات بأثوابهن الشعبية في وضع رومانسي بين أشجار البرتقال والزيتون المتعانقة. الثانية كانت لوحة «النكبة» واسمها كاف للدلالة عليها. الوحة الثالثة قرر الراحل الكبير تركها بيضاء كتب عليها «أترك هذه اللوحة بيضاء ليأتي يوم ويرسم الشباب والأجيال الطالعة طريق مستقبلهم الذي يرونه نحو التحرير والعودة للوطن». تمام الأكحل عملت بدورها على ملء المسافة بين الكلمة والممارسة، فدرست الفن وأنجزت دورات لتعليم فتيات الفن اللواتي تخرجن تحت إشرافها في الكويت انتهت بإقامة معرض لأعمالهن في إحدى قاعات وزارة الثقافة الكويتية.
إسماعيل شموط بدوره شارك في أعمال فنية خاصة منها تصميم بدل الجيش اللبناني، وكذلك تصميم كتيب وزارة الدفاع اللبنانية «التنشئة الوطنية الإنسانية» فازا بتقدير خاص من العقيد فؤاد الحسامي، الذي كان إنساناً ووطنياً وعروبياً، بحسب كلمات الفنانة المبدعة.

تمام الأكحل بريشة اسماعيل شموط عند عودته من روما عام 1965

في مقلب آخر، اغتنم الزوج الأكحل/ شموط علاقاتهما ليتحول بيتهما إلى «بيت الشعب» يجتمع فيه فنانون وأدباء وشعراء وموسيقيون، منهم إلياس سحاب والوزير عبد الرحمن اللبان والطبيب علي مقصد.
تتذكر تمام الأكحل زيارتها الأولى لفلسطين بعد التهجير عندما عهدت وكالة الأونروا لها ولإسماعيل عام 1962 إعطاء المعلمين في قطاع غزة عن كيفية تدريس الفن، فكانت فرصتها الأولى للقاء بأهل زوجها. لكن مشاهداتها المختلطة في القطاع أثرت فيها، ونقرأ تفاصيل معاشاتها هناك في الفصل الخامس عشر «من الأونروا إلى منظمة التحرير»، وهو واحد من 22 فصلاً حواهما المؤلف.
بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وانعقاد المجلس الوطني الأول عام 1964 في مدينة القدس، فتحت آفاق جديدة لانطلاق الشعب الفلسطيني، على نحو مستقل عن الأنظمة العربية التي باعت فلسطين وأهلها «باعوها مفروشة» كما يقال. تم للزوج عرض فنونهما في معارض مختلفة منها ما جاب 12 ولاية أميركية، إضافة إلى دول غربية أخرى بعدما كانت قد انتشرت في الدول الشيوعية ومن ثم في الصين ومن بعد في اليابان. وقتها، عين الراحل أحمد الشقيري إسماعيل شموط رئيساً لقسم الثقافة الفنية ضمن دائرة الإعلام ومقرها في بيت حنينا الواقعة بين القدس ورام الله. ومن المعروف أن الفنان الراحل هو من صمم شعار «منظمة التحرير الفلسطينية».

يا ليل يا عين!

تحدث تمام الأكحل في الفصل الثامن عشر، عن ابتداعها أسلوباً فنياً عربياً عام 1984 بالقول: «المعروف أن السمع والبصر أهم ما يبقى في الذاكرة، وكان للموسيقى العربية أولوية في دغدغة مشاعري، وكذلك الألحان الموسيقية ذات المواويل التي تبدأ بجملة «يا ليل يا عين»، والتي تتكرر كل مرة بلحن، وهي كلمة تجريدية، كالفن التجريدي العربي. إذ إن مفهومنا الفني لكلمة التجريد، بحسب القاموس الفني، هو تجريد الشيء من تفصيلاته وليس إلغاءه وتحويله إلى بُطش لونية. فرحتُ أرسم الحصان العربي بشكل تجريدي من تفصيلاته وجعل الخط الخارجي له فقط، وأكرر الشكل كل مرة، كاللحن، وجعلته خطوطاً متقاربة متماسكة، بينما بقي الحدث الفلسطيني هو الموضوع الأساس. وبهذا، بدأت أخوض مدرسة فنية جديدة عربية متمنية لنفسي النجاح فيها، فكانت أولى نتائج هذه التجربة لوحة «صهيل الثورة»، ثم أكملت عدة لوحات أُخر. وما زلت أعمل على تطوير تلك التجربة كأسلوب عربي بموضوع إقليمي.

هَزَمَتْكَ يا موت الفنون

المبدع الراحل إسماعيل شموط كان يعاني مشاكل في القلب، وما زاد الضغوط عليه المهام الكثيرة التي ألقيت على كاهله ومنها رئاسة دائرة الثقافة في منظمة التحرير في بيروت، ومن ثم رئاسة اتحاد التشكيليين الفلسطينيين، إضافة إلى عمله في همه الأساس وهو الرسم.
لم يتمكن القلب الذي عانى ما عاناه في رحلة التهجير القسري، من تحمل تلك الضغوط الكثيرة التي زاد عليها اندلاع الحرب في لبنان، فعمل على الانتقال إلى ألمانيا الشرقية حيث سعدت بلقائه هناك وهو يتعافى في المستشفى الحكومي بعد عملية القلب التي خضع لها في كانون الأول (ديسمبر) 1976.

لكنه لم يتوقف عن العمل حتى في أعمال كانت تتعب الناظر فكيف بمبدعها. أقصد هنا لوحاته عن تل الزعتر.
حظي الزوج شموط والأكحل بحفاوة بالغة في ألمانيا الشرقية التي احتضنتهما وأولادهما وفتحت لهم أبواب العيش فيها والتعلم للأبناء، ونوهت إلى دور الصحافي الكبير كارل إدورد فُن شنتسلر، الصديق الوفي لفلسطين ولقضايا التحرر في العالم، في تسهيل وجودهم في ألمانيا الديمقراطية. لكن تمام وإسماعيل قررا العودة، ما أمكن إلى بيروت، بعد ترحال شاق، والكاتبة توفيه وتوفي ألمانيا الديمقراطية حقهما في ذكرياتها.
في ختام مرحلة تمكنت تمام الأكحل وإسماعيل شموط من زيارة الوطن المغتصب حيث زارا بيتهما في يافا واللد، والتقيا هناك بالأخ الكبير محمد أبو ميزر وزوجه الأديبة والشاعرة مي الصايغ. وقد خلدت تمام هذه الرحلة في لوحتها عن احتلال شوشانا فنكلشتاين بيتها. كما عبرت عن لقائها بمدينة الناصرة بلوحة «الناصرة فوق الجميع» لتخليد انتصار العقل على محاولات قسمة الشعب ببناء جامع وسط المدينة ودعم الاحتلال لذلك.
في الثالث من تموز (يوليو) عام 2006، توقف قلب اسماعيل شموط الدافئ المعطاء عن الخفقان، وعلى ضريحه نحتت كلمات محمود درويش «هزمتك يا موت الفنون».

(الأخبار)