شيخ المصورين محمد ترجمان يرسم ذاكرة صُوْر بالاسود والابيض

كامل جابر

لم تثقل السنوات التسعين همّة شيخ المصورين محمد عبد الباسط ترجمان في أن يحبس أنفاسه خلف عدسته ليلتقط الصورة رقم ثلاين مليوناً أو أربعين أو حتى خمسين مليوناً؛ متوجاً ذاكرة مدينة صُور بالأسود والأبيض، ومسيرة نحو أربعين عاماً من التصوير المستمر الحافلة بالذاكرة والتاريخ ومجريات الأحداث والوجوه ثم الوجوه.

يكرس المصور محمد ترجمان استديو “رمسيس” في شارع الريفولي، في مدينة صور، منطلقاً نحو ذاكرة مدينة صُور وصورها، بعد عشرة أعوام من قدومه إليها، متأبطاً أحلام ذاك الشاب الصيداوي، وشغفه في الترنح أو التسمر وراء عدسته وموهبته، لاهثاً خلف جمال الصورة ومحتواها، في المدينة المشعة بالروعة الأثرية وقصص البحر الذي يحتضنها من جهات ثلاث.

يستغل ترجمان عطلة صيف المدرسة، فيتنقل بعد العام 1936، وهو لما يبلغ بعد الثانية عشرة، من ناقل للحليب على دراجة هوائية، إلى عامل في مهنة صناعة الأجبان والألبان عند خاله أبي منذر القطب حتى العام 1948، عام النكبة في فلسطين “إذ تراجعت المهنة بسبب قيام الرعاة بخلط الحليب الطازج بالحليب الناشف الذي كان يوزع على المهجرين الفلسطينيين؛ صارت البضاعة التي أحضرها من منطقة القاسمية مغشوشة، فأوقف خالي معظم صنعته، كنت في هذا الوقت أعمل من الواحدة فجراً حتى الثامنة صباحاً، أنزل بعدها إلى منشرة والدي وأساعده حتى الثانية بعد الظهر، أنام بعدها قليلاً ثم أقضي مجمل وقت العصر قرب البحر؛ ألتقط هناك بعض الصور بكاميرا 130، تصور ثمانية صور اشتريتها بليرتين وربع الليرة، أصور فيلمين وآتي لعند المصورين العظام والقدامى في صيدا لأتلقى نصائحهم في ما صورت”.

الصدفة في الاحتراف

يطور محمد ترجمان هواية التصوير ويشتري كاميرا “لايكا” التي تلتقط 36 صورة بـ65 ليرة لبنانية. وقبل أن يترك معمل الحليب قرب ميناء صيدا، يلتقي بمغترب قادم من أفريقيا، يسأله إن كان يرغب في السفر إلى هناك، فيوافق على الفور، ويعطيه عنواناً في مدينة صور، يجب أن يذهب إليه ليحصل على “الفيزا” التي سيرسلها المغترب لاحقاً إليه “أعطاني العنوان في أفريقيا، في دكار شارع تاز، والعنوان في مدينة صور، التي ذهبت إليها أكثر من خمس مرات ولم تحضر الأوراق بعد؛ في المشوار الأخير حملت آلة التصوير معي، التقيت بشبان قرب البحر، فسألوني إن كنت أصورهم، وفعلت وتواعدت وإياهم على اللقاء في اليوم التالي، وحضرت وصورت فيلمين آخرين وحصلت على مبلغ 16 ليرة، وصرت هكذا آتي صباحاً إلى صور، أصور، وأعود في المساء، أطبع الصور وأحضرها معي في اليوم التالي؛ ولأن لا مصورين في المدينة، عرض علي أحدهم غرفة في حي الكاثوليك لتكون مركز عملي وفعلت، وبقيت على الأمر حتى أواخر العام 1949 إذ قررت الإقامة في صور”.

لم تكن مهنة ترجمان سهلة، إذ كان يضطر إلى الذهاب نحو صيدا يومياً على متن دراجته الهوائية، نحو أربعين كيلومتراً، في مختلف الظروف المناخية، لتحميضها وتظهيرها وطباعتها خصوصاً في فترة ما بعد الظهر؛ فالتيار الكهربائي لم يكن قد وصل بشكل كامل إلى مدينة صور بعد، كان يقتصر على ساعة صباحية وساعتين ليلاً، وبعد الظهر يصبح الوقت غير مناسب للتصوير “فأغتنم الوقت لتحميض الأفلام وطباعتها في فترة المساء في صيدا؛ ثم شاهدت ميكانيكياً يضيئ مصباحاً من سيارته، فقررت الاستفادة من هذه الطاقة ونفذت فكرتي وكنت أول من استخدم طاقة البطارية في طباعة الصور في صور. أما التصوير في الاستديو، فقد اعتمدت التصوير نهاراً على ضوء الشمس الداخل من واجهة زجاجية بين جدارين طليتهما باللون الأبيض لعكس النور”.

من كتاب متواضع عن فن التصوير يطور ترجمان حرفته التي يهوى ويعشق، يتعلم التحميض والتظهير ويطبق ذلك في محله في صور، “بعدما عانيت الأمرين في الانتقال اليومي من صور إلى صيدا، أكثر من ساعة ونصف الساعة فوق الدراجة الهوائية في الذهاب أو الإياب، فقط يوم الأحد، تستغرق رحلتي ساعة وعشر دقائق (يتبسم ويردف: اسألني ليش؟)؛ يوم الأحد يأتي المستجمون والسواح إلى شاطئ المدينة، ويتركون خلفهم ما لذ وطاب للكلاب من أطعمة، فتترك البساتين هي الأخرى وتقصد الشاطئ؛ ولم يكن لها من تسلية غير مطاردتي وهي تنبح وأنا أعبر بدراجتي التي أطلق العنان لسرعتها خشية أن يعضني أحدها؛ وكنت أصل في أحيان كثيرة وأذيال ثيابي مقطعة. وبقيت على هذا المنوال حتى العام 1952، إذ اشتريت من بائع محل “غاما” دورنيان في الجميزة كاميرا استديو كبيرة، ولوازمها وتدربت عليها هناك أكثر من شهر وانطلقت كمصور اساس في المدينة، وبدأ في هذا الوقت يظهر بعض المصورين، إنما بقيت أتمتع بأفضلية ومحبة لا توصف من أهل المدينة. صرت أقوم بالريتوش واستخدام الفحم في التلوين ومادة فيكزاتيف للتثبيت؛ وقد اهتديت صدفة إلى التثبيت بسائل “سفن آب” إذ اندلقت القنينة خطأ على إحدى الصور وبعدما جفت وجدت أن لونها صار ثابتاً، فاستغنيت عن الفيكزاتيف الباهض الثمن، إذ أن قنينة 100 غرام كان ثمنها 7 ليرات، ومن يحضرها يأخذ أتعابه ليرتين؛ وعلمت الأمر لعدد من المصورين الطفرانين مثلي”.

يأتي العام 1958، و”الثورة ضد شمعون، كنت لم أزل في الحارة؛ أقيمت المتاريس في المدينة؛ فشاركت فيها إلى جانب العروبيين الناصريين أميناً للذخيرة؛ وانتقلت سنة كاملة إلى المتاريس، ما أتاح لي التنقل خلف متاريس الثوار والمقاتلين والتقاط صور لهم ببنادقهم الممشوقة ورحت أصور أكياس الرمل والمسلحين وحركتهم المتواصلة؛ وكذلك مراسلاً لصحف محلية كالهدف والبيرق والتلغراف؛ صورت قتلى البوابة محمد قاسم ومعن حلاوي كان حاملاً للعلم اللبناني وابن سلامة وهربتها إلى التلغراف في بيروت بعدما طوردت في البستان وصودرت الكاميرا مني. صورت أكثر من 800 صورة لم أزل أحتفظ بها، ولم أسلمها في حينه إلى أصحابها، إلا بعد انتهاء الثورة، مع العلم أنني كنت أقبض ثمنها فوراً بعد تصويرها؛ وكانت الحصيلة المادية تسعة آلاف ليرة لبنانية، جهزتني للزواج وشراء منزل في منطقة الرمل، في الحوش وكنت أول من سكن المنطقة”. وبعد انتهاء الثورة ينتقل إلى بستان الكاثوليك ويفتح محله الحالي قبل وصول الشارع إليه ويطلق عليه اسم “ستديو رمسيس” نسبة إلى تمثال لرمسيس كان في المحل.

صور لآثار منهوبة

إلى جانب التصوير الفوتوغرافي، يبدأ ترجمان بالتصوير السينمائي، من كاميرا تدار يدوياً باليد، إلى آلة 16 ملم اشتراها بأربعة آلاف ليرة، يعرض أفلامها على ماكينة “باور” ناطقة وظل يعمل عليها حتى لم يعد يعثر على أفلام لها. في العام 1964، يصور اكتشاف أحد نواويس صور (160 سم × 80 سم) “قبل أن ينقل إلى المتحف، اشتغلت بعد العام 1962، ست سنوات بالآثار، مع البعثة الفرنسية التي أتت من أجل هذا الأمر ووزارة الآثار اللبنانية؛ كنت أصور المكتشف منها قبل الظهر، وتختفي بعد الظهر، منها ما نقل إلى اللوفر في فرنسا، ومنها إلى المتحف الوطني، ومنها ما كان للتجارة، للبيع، وهي للأسف أكثرها. كثيراً ما كان يأتي السواح ويعودون حاملين أكياساً من الآثار المكتشفة! من يبيعهم إياه، لا أدري. صورت صحنا عليه أربعة رؤوس، على جسد خيل؛ هي في الأرجح صور الاسكندر المقدوني، وبعدها اختفى هو والفناجين التي كانت إلى جانبه. اكتشفت آثار ربما من 1500 سنة وزجاج من مملكة صيدون ولا أدري أين أصبحت كلها؛ كان المسؤول عن الأمر موريس شهاب”.

في العام 1962 يصور من مروحية فرنسية مدينة صور من الجو، شبيهة بصور لبعثة فرنسية التقطت من الجو عام 1932؛ “كنت أحمل الكاميرا التي تصور صورة واحدة، لو كنت أعلم أنني سوف أشاهد هذا المنظر الخلاب من الجو لكنت أخذت معي كاميرا 6×9 التي يمكنها أن تصور ثمانية صور”.

لقد رسم أسود وأبيض محمد ترجمان خطوط البحر والأبنية العتيقة وحركة الصيادين بين مد الشبكة وجزر الصيد، ثم تعدد المصورون في صور “لكنني لا التمس لأحدهم الحرفية، وأصول المهنة، فالمعدات الحديثة، وخصوصاً الرقمية اليوم، لا تحتاج إلى ذلك الجهد، فتكاد هي تقوم بمختلف المهام؛ على عكس أيامنا، إذ كنت الوحيد أنا في صور، ولا تزال صوري التي استخدمت من دون إذني وطبعت مرات وراحت إلى أقاصي الدنيا، مميزة بحرفيتها ودقتها، في وقت لم تكن المعدات على هذه التقنية المتقدمة”.

ما زال “شيخ المصورين” ونقيبهم، في مدينة صور، يحتفظ بمعداته القديمة، وكل آلات التصوير التي استخدمها، الشمسية في معظمها، وأوعية التحميض والتظهير والطباعة، وحبال النشر والمصابيح الحمراء، وبعض الأفلام القديمة العائدة إلى أكثر من ستين عاماً. لكنه يتحسر على “أرشيف الصور المدمر والتالف من العدوان الإسرائيلي الذي تعرضت له مدينة صور في اجتياح عام 1982، فضلاً عن أرشيف من الصور لمحترفين كبار جمعها مذ كان شغوفاً في المهنة، قبل احترافها، للحربين العالميتين الأولى والثانية، لمدينتي صور وصيدا التقطها مصورون فرنسيون كانوا يأتون إلى المدينتين.

ويعتبر المصور ترجمان أن معظم ذاكرة مدينة صور اجتاحتها الحداثة في البناء والطرقات حتى حل العام 1994، و”باتت الأمكنة والمناظر لم تعد تستحق التصوير”.

صوّر الناخبين في انتخابات صور منذ 1992، بعد طول انحباس “لكنني لم أتلق حتى اليوم كل أجري من الجهات النيابية والحزبية التي صورت لها”.

الصورة في صور، جعلت ترجمان يحفظ مختلف تفاصيل أزقة المدينة، وأبوابها باباً باباً، حتى شبابيك بيوتها ووجوه صياديها ومراكبهم، ورذاذ الماء المنبعث من البحر ليلفح الجباه العامرة بحروف التاريخ، صدى الفينيقية والرومانية والبيزنطية…قبل أن تطوقها الأبنية وتمحو امتداد شاطئها الرملي الأروع، بأرصفة وطرقات وأمكنة “ما أثقل حسرتي بعدما ابتلع الاسمنت مساحات من البحر وذاك الشاطئ الجميل الذي غردت عدستي فوق رمله أروع الصور”.

ولو عاد الزمن نحو الخلف لن يختار ترجمان “بديلاً عن هذه المهنة التي حضرت إليها فقيراً ويبدو أنني سوف أتركها كذلك، أما الغنى منها، فهي أنني علمت أبني وبناتي الأربع أفضل تعليم في أهم المدارس، وحصلوا على أحسن الشهادات. وما ثقل همتي اليوم، إلى بسبب الاصابة التي منيت بها في العمود الفقري جراء عدوان تموز 2006، برغم ما تلقيته من علاج”.

كرمت مدينة صور نقيب المصورين محمد الترجمان الذي أتى إليها يافعاً في الثالث والعشرين من العمر، وقد تجاوز الثمانين، بتنظيم من نادي التضامن متعاوناً مع موقع “يا صور”، في إطار اختتام معرض صوَر عن المدينة. وكانت الزاوية الأبرز في هذا المعرض  مجموعة صور التقطها المصور ترجمان لمدينة صور في مراحل زمنية مختلفة “تسجّل التبدل الفاضح الذي طرأ على معالمها والتشويه الذي مورس ضد شواطئها وأحراجها وشوارعها”؛ بحسب ترجمان الذي يحتفظ بنيجاتيف معظمها في مغلفات خاصة. كما عرضت مجموعة له التقطها خلال ثورة العام 1958 التي اندلعت في المدينة إثر إنزال المارينز الأميركي على شواطئها، ويظهر فيها عدد كبير من الصوريين الذين شاركوا في القتال.