المبدع وجيه نحلة… وداعاً

الفنان وجيه نحلة أمام إحدى لوحاته “النورانية”

غيب الموت الرائد في عالم الرسم والريشة واللون الفنان المبدع وجيه نحلة عن عمر ناهز الـ85 عاماً. ونعته «نقابة الفنانين المحترفين في لبنان» أحد أبرز اعضائها «صاحب اللوحة المتكاملة والباحث دوما عن لون لا وجود له».

كما نعى وزير الثقافة غطاس خوري نحلة وقال: «برحيل الفنان وجيه نحلة تفقد الساحة الفنية التشكيلية احد اهم روادها الاوائل الذين عملوا على ادخال تيار الحداثة الفنية التشكيلية في لبنان».

وأضاف: «ريشة نحلة حلقت عاليا وفتحت أفاق جديدة حتى وصلت الى العالمية، لذا ستبقى لوحاته محط انظار ومرجعا لكل فنان تشكيلي في لبنان والعالم».

اشارة الى انّ وجيه نحله هو رسام لبناني مرهف الحس يجعل الريشة تأخذك معها لرحلة ممتعة تحاول مستمتعاً أن تراقب كل تفاصيل اللوحة.

يُذكر انّ الراحل يحمل جوائز وتنويهات عدة.

موقع «هوا لبنان» يتقدّم من عائلة وجيه نحله بأحرّ التعازي.

ويعيد موقع «هوا لبنان» نشر مقابلة أجراها معه الزميل كامل جابر بتاريخ السادس من تموز سنة 2010…

وجيه نحلة… الرسام النوراني يبحث عن لون لا وجود له

كامل جابر

“لدي اليوم أسلوب نوراني شفاف. حتى تصل إلى حالة الانعتاق، تصبح لديك طاقة غريبة وإبداع غريب، لا تستمد ما تريده من المحسوس والملموس، بل من روحانيات هلامية، فضائية فيها نور وصفاء، بعدٌ وسفر. إنني لم أزل أبحث عن لون لا وجود له؛ من كل لون عندي مائتا لون، ثمة لون لم أجده بعد. أنا الريشة واللون أضربهما مرة واحدة ولا أكررها، أحفظ الألوان كلها، وأعمل حالياً بعد الأزرق على الليلكي الفاتح. أنا متأكد من أن سراً خفياً في حياتي لعب دوره في هذا النجاح”. بهذه الكلمات يلخص الرسام وجيه نحلة علاقته بالفن واللوحة والريشة ومآل أسلوبه، ويؤكد الفنان الذي يدنو من سنواته الثمانين، أنه لن يموت وهو في فراشه “بل سأكون متسلقاً إحدى اللوحات، وسأسقط عن السلم من ارتفاع، لكن ذلك ليس قبل سبع سنوات”.

ليس من السهل العبور إلى ذاكرة وجيه نحلة المتبدلة مراحل وسنوات كتنوع فنونه، من دون المرور على محترفه “المنكوش”، والمتراكم بين لوحات ومعدات من ألوان وريش ومقاعد وسلالم ومكاتب، إلى ملفات من صور انتاجه الذي فاق سبعة آلاف لوحة، ومطبوعاته، في طبقات ثلاث، من أربعة في بيته المتدلي على إحدى تلال الرابية قرب أنطلياس، إذ بنى جذور البيت في تلك المحلة التي لم تكن مأهولة في العام 1968، ثم راح يوسع البناء شيئاً فشيئاً وصولاً إلى شكله الحالي.

بعد ساعة من الجرعات في استعراض لوحاته ورصيده الفني المطبوع، يكون الباب مشرعاً نحو ولوج ذاكرته، التي تعود به إلى محلة الصنائع في بيروت. هناك في بيت والده محمود نحلة الضابط الاطفائي (في أطفائية بيروت) ابن بلدة الطيبة في جنوب لبنان، ولد وجيه عام 1932. أخبرته والدته عن الحديث الذي دار مع جارتها يوم زارتها لتهنئتها بالمولود الجديد أنها قالت لها: لقد أتانا مولود ذكر يحمل في يده ريشة؛ “ولم أزل منذ ذاك اليوم أحمل الريشة”. يخبرنا وجيه نحلة.

رصد وجيه نحلة خطوط الرسم الأولى في لوحات نسخ (كوبيست) عن بطاقات سياحية يمارسها والده المولع بالرسم بالبودرة والزيت “كنت ابن خمس، يوم صرت أخربش على لوحات أبي وأتلقى على بعض تشويهي لها شيئاً من عقاب”. أما مخيم كشافة الجراح، الذي شارك فيه عام 1940 في فرقة الجراميز، فأهله لنيل جائزته الأولى على الرسم “كان المخيم في بكفيا، اذكر أنني كنت أصغر أترابي، وزعوا علينا أوراقاً وألواناً وقالوا ارسموا عليها من وحي المخيم؛ بعد ثلاثة أشهر وصلت إلى البيت نسخة من مجلة “بيروت المساء” قرأتها أمي وشاهدت صورتي تحت عنوان: الكشاف الصغير وجيه نحلة يفوز بالجائزة الأولى عالمياً، وكانت فاتحة لوسام علق على صدري من الرئيس رياض الصلح”.

لكن انتماءه إلى الرسم الجدي بدأ ينمو في سن العاشرة، إذ صار يراقب خلال رواحه ومجيئه إلى مدرسته في محلة حوض الولاية، جاره الرسام الانطباعي العائد لتوه من إيطاليا مصطفى فروخ. أما بداية التعرف به، فكانت حينما تكلف الطفل بشراء علبتي تبغ طاتلي سرت (مفروم) للرسام المنغمس في انطباعيته. سأله فروخ عن سر مراقبته له، فيخبره عن اهتمامه بالرسم. طلب إليه أن يريه رسومه “ركضت نحو البيت، أحضرت رسومي وعدت، فسألني هذا شغلك؟ قل لأبيك أن يزورني. أمامي أخبر والدي أن ابنك سيكون فناناً كبيراً. قال والدي لا تعوده على ذلك حتى لا يتلهى عن درسه. قال فروخ: ابنك موهوب وأنا شخصياً سأهتم به، خلال العطل المدرسية، وهكذا كان”.

من مدرسة حوض الولاية إلى مدرسة البطريركية ارتبط الفتى وجيه نحلة بالرسم أكثر فأكثر. وإلى دروسه في الخطوط والألوان على يد مصطفى فروخ الذي كان يصطحبه إلى الطبيعة في جولات الرسم بين عجلتون وفاريا، صار يتعلم أصول الخط العربي على يد الشيخ محمد الهاونجي.

عام 1950 ومع نمو موهبته، انتدب مصطفى فروخ بعض لوحات تلميذه لتشارك في معارض متفرقة. وكان العام 1952 أولى مشاركاته في معرض الأونيسكو الكبير “كان رئيس المصلحة عبد الرؤوف فضل الله، ورئيس دائرة الفنون جوزف أبو رزق، في تلك الايام كنت مأخوذاً بمشاهدات إنسانية من “العتال” (الحمّال) إلى “بائعة الصعتر” وغيرها، دخلت وأنا فتى نحيل على أبو رزق، وطلبت منه المشاركة، سألني من أين تخرجت؟ قلت: من عند مصطفى فروخ جارنا؛ نادى على جوزف زعرور، مدير المصلحة، أن أقبِل وشاهد شيئاً، فقال الأخير: ليعرضها. فسمحوا لي بالعرض وكانت الخطوة الأولى نحو بروز اسمي”.

في الجامعة اللبنانية، بدأ دراسة الطوبوغراف، وحصد المرتبة الأولى بين الأعمال التصوّرية لبيروت عام 2000، وكتبت الصحف عن موهبته في الخيال، ونال منحة للتخصص في الولايات المتحدة الأمريكية بمباركة من رئيس بلدية بيروت متري النمّار، لكن منعتها عنه معارضة والده الذي كانت عائلته قد اتسعت عائلته إلى 12 ولداً وبات عليه إعالتها بمساعدة أبنائه”.

في مطار بيروت اشتغل طوبوغرافياً ورساماً هندسياً، بواسطة الرئيس عادل عسيران، سنة 1956 في هذه الفترة بدأت عودة الدفعة الثانية من الرسامين الفنانين من الخارج، وبدأت المدارس تتخلص من الانطباعية لتنحو باتجاه التجريدية؛ استدعاه مصطفى فروخ وهو على فراش المرض “قال له: يا وجيه، إن الله أعطاك موهبة، وهي نادرة، انت اشتغلت، لكن لديك أبعاداً أكثر بكثير من المتخصصين الجدد، ومخيلتك تستوعب أشياء لم نرها نحن، أنصحك وعندك كنز في العالم العربي والاسلامي، أن تبحث عنه من خلال إحساسك”. بعد جولة في الدول الاسلامية، وكانت للتأمل، لفت انتباه صاحب “بائعة الصعتر” الحرف العربي المكتوب، “أخذت صورة الخط خصوصاً بعد دخولي إلى متحف توب كابي في اسطمبول وقد أمضيت فيه ثلاثة أشهر كاملة من دون انقطاع لأتعرف أكثر فأكثر على الخط العربي، لا سيما المخطوطات الإسلامية بخط عثمان والإمام علي، وقررت بعدها إدخال الخط في اللون بعد التخلي عن رسم المناظر، وهنا بدأت الحروفية العربية، على نمط أشكال، ومستوحيات فينيقية”.

في تلك الفترة زودته شقيته صوفي المتزوجة من ألماني وتعمل بسفارة لبنان في بون، بعلبة فيها مادة بوليستير، مع سائل، خلط هذه المادة مع مواد أخرى، وبدأ يرسم الحرف النافر. ساعدته معلوماته الهندسية، في توزيع ألآيات بمسافات متساوية هندسياً، “كان عملاً رائعاً، إحدى اللوحات بيعت بـ 170 ألف فرنك فرنسي، كانت آية الكرسي “التي لم تكتب حتى اليوم كما كتبتها بحرف مقروء كأنه منحوتة”.

في عام 1964 قدم اول معرض فردي له في غاليري البيت الفرنسي في بيروت لتكر بعدها سبحة المعارض الخاصة. سنة 1966 حصد وجيه نحلة جائزة متحف سرسق على لوحة من أواخر أعماله على المرحلة الفينيقية، كما نال جائزة الجناح اللبناني في بيينال الاسكندرية، وتوجها بجائزة بيينال باريس التي أطلقته نحو العالمية. منذ ذلك الحين نحا باتجاه دراسات على الحروفية والتراث الشرقي. في تلك المرحلة هاتفه غسان إبراهيم شاكر، صهر رئيس الحكومة الأسبق حسين العويني، وطلب منه إعداد أربع لوحات إسلامية مكتوبة بالذهب النافر ومنحه شيكاً بخمسة آلاف ليرة، في حين أن راتبه من الوظيفة لم يكن ليتخطى 450 ليرة. وعلى مدى سنتين متتاليتين اشتغل لوحات مشابهة احتلت القصور الملكية في عدد من الدول العربية. وعند هذا الطلب على لوحاته اضطر للاستقالة من الوظيفة والتفرغ للفن.

من الحروفية إلى الإسلاميات، فمرحلة انتقاله إلى الخليج العربي، إلي رسم جداريات في مطار جدة، إلى معرض باريس في “جورج الخامس” إلى معارض متتالية في الولايات المتحدة الأميركية جعلت من وجيه نحلة رساماً ذائع الصيت، لا يهدأ، ينتج سنوياً مئات اللوحات، حتى اتهمه بعض النقاد بأن التجارة طغت أخيراً على أعماله الفنية.

في مرحلته الأخيرة، التسعينات، ركز وجيه نحلة على اللون والخيال والضوء، أضحى اللون مقامات، وطبع اللون الأزرق ومشتقاته أكثر لوحاته، فيما لم يتخل عن الحرف. صارت لوحاته مهرجانات من ألوان متوهجة، نورانية، من خيول جامحة تمتزج بحروف وأطياف راقصة وخيالات نسائية ووجوه من عالم آخر. قال عنه صديقه الشاعر هنري زغيب “ضاقت به الريشة على التعبير. ضاق به اللون عن الصراخ. ضاقت به القماشة البيضاء عن المدى، فكسر كل مألوف وقرر أن يجرؤ: أخذ يرسم بالضوء”.

وقال الشاعر أدونيس: “أقرأُ رسوم وجيه نحلة، فيخيل إلي أنه يستخدم جسد الكلام لكي يصلنا بالبدايات. يمزق هذا الجسد، يبعثر أجزاءه، يمزج في ما بينها تاركاً بعضها يتنافس أو يتآخى مع بعض. ثم يرشق الخطوط”.

يقول نحلة: “أنا خلقتُ أنا، صنعت أكاديميتي وأسلوبي الخاص، الفن يحتاج إلى ممارسة يومية، إلى ثماني ساعات من الرسم وإلى ثمان مثلها للإبداع، الوحي والطاقة الخفية هما موردا الأفكار، هنا الفرق بين أن تبدع  شيئاً وأن تخلق شيئاً، الخلق هنا المقصود. إن الطاقة الخفية تلتقط أكثر من الكاميرا، لأن ثمة إحساساً وعاطفة ودفئاً فيها، روح الانسان تستند إلى طاقتين، الطاقة المادية والطاقة الروحية، الطاقة الروحية هي للخلق والتنمية والتطوير حتى تصل إلى الآفاق، إلى الإبداع، إلى العبقرية، إلى الوحي الذي يحرك يدك، وهنا يكمن الفرق”.

تزيّن لوحاته عدداً من المتاحف العالمية أهمها في متحف الفاتيكان. كما نُشرت أبرزها مع نبذة عنه في موسوعات فنيّة تشكيليّة في العالم. أما جدارياته وأعماله الإسلامية فتتوزع في عدد من القصور والقاعات الشرقية في دول الخليج، منها جداريّتان مذهّبتان بقياس خمسة امتار في مركز دبي العالمي للتجارة، واثنتان في مطارَي الملك عبد العزيز والملك خالد في المملكة العربية السعودية. وزُيّن قصر المؤتمرات في الرياض بثماني جداريات من نتاجه. أما معارضه فقد جالت على عواصم العالم الفنية من بيروت إلى باريس ونيويورك ولوس أنجلس وجنيف والبندقية وغوالا لمبور وألمانيا والإمارات العربية والخليج العربي وتونس، وغيرها.

 

 

تواريخ

1932 ولد في محلة الصنائع في بيروت من عائلة قدمت من بلدة الطيبة الجنوبية.

1940 حصد جائزة عالمية في الرسم بعد مشاركته في مخيم للكشافة.

1950 قدمه معلمه الفنان مصطفى فروخ في معارض محلية.

1964 أول معرض فردي في غاليري “لا فرانس” في بيروت.

1965 نال جائزة وزارة التربيه الوطنيه. وبعد عام حصد عدة جوائز محلية وعربية وعالمية.

1971 أول معرض عالمي في “غاليري الفن العالمي” في البندقية.

1977 معرض والي فندلي كاليري العالمية في باريس ومعارض مشابهة في أميركا وباريس.

1980 وسام الاستحقاق اللبناني للآداب والفنون من رتبة ضابط.

1994 وسام الاستحقاق الفرنسي للآداب والفنون.

2010 يعمل على تجميع لوحاته ليكوّن متحفاً خاصاً به.