بالكلام والصور: مات نصري شمس الدين… صوته وفنّه لم يموتا… تحية

في مثل هذا اليوم مات نصري شمس الدين على خشبة المسرح

34 عاماً على رحيلة: أين متحفه؟ وأغنياته؟ وأين طابعه البريدي؟

في 18 آذار سنة 1983 سقط مطرب الأغنية الجبلية اللبنانية وصاحب الصوت الشجي الهادر نصري شمس الدين على المسرح في سوريا بينما كان يؤدي أغنية «الطربوش». 34 عاماً على رحيله يستمر الإحجاف بحقه على أكثر من مستوى. معاً نستعيد تحقيقاً أجريته في ذكرى مرور ربع قرن على رحيله، منذ تسع سنوات…لتسليط الضوء على هذا المبدع الرائع… وهو لا يحتاج إلى ضوء بعدما ملأ الدنيا فنّاً ساطعاً… إنها تحية…

كامل جابر

في الصعود الجميل من جهة صيدا الشمالية نحو جون الشوفية، لا يمكن إلا اشتمام عبق صيادها «نصري»، وكأنه لمّا يزل يذرع نواحيها الطبيعية الرائعة رواحاً ومجيئاً خلف طيور دسمة؛ ويطرب عيون مائها بصوت دافئ قلّ نظيره، ويمنح بيوتها ثقة «القاضي» والصديق «حلالاً للمشاكل»؛ مبعثه هذا الارتباط الوثيق الذي كان ببلدته التي شكلت الوحي لكلمات اغنياته وألحان بعضها؛ ويخال الداخل إلى جون أنّه حتماً سوف يلتقي بفنانها خارجاً من أحد أزقتها أو حقولها؛ وثمة صوت سيهفو نحوه آتياً من الوادي: «كيف حالهن كيفن حبايبنا».

يصدح من جهاز التسجيل صوته المتسائل عن رصيده الانتخابي من مسقط رأسه في مسرحية «ناس من ورق»: «جون، جون بلدي جون؟ جون بتعطيك زيت وزيتون…الله عالزيت والزيتون، هالله هالله يا جون؛ بلد الحبايب هالله يا جون، وأنا مسوكر نايب، ربينا بفياتك، قطفنا زيتوناتك؛ وهلق بدي إترشح وترشيحي مضمون». كلمات قد تختصر العلاقة المميزة بين جون وابنها الراحل باكراً عن 54 عاماً، منذ 34 عاماً بالتمام والكمال.

 

يختزل التمثال النصفي المنتصب في «ساحة نصري شمس الدين» وسط البلدة منذ آب 2005، بعضاً من الطموح «العائلي» المتنامي في تكريم هذا الفنان الأصيل عوضاً عن «الدولة» ووزاراتها، على مدى السنوات الـ34 التي تعاقبت بعد رحيله المفاجئ على خشبة المسرح في سوريا، في 18 آذار 1983؛ إذ نحت الفنان خليل ريشا تمثالاً للراحل المبدع معتمراً طربوشه الذي كان آخر شدو كلماته قبل أن يهوي «تركوني لحالي لحالي، غنّي الليالي بالليالي، خلوني بالعالي العالي إرمي هالطربوش»؛ والتمثال تمّ على نفقة عائلته  (نحو 8 آلاف دولار) بعدما منح النحّات أتعابه تحية للراحل الذي يحب.

حلم تحويل بيته شبه المهجور، «حالياً» في ساحة جون القديمة، إلى متحف لم يزل حلماً يراود عائلته، خصوصاً بعدما قوّضت السنوات المتعاقبة بعض أسس هذا الحلم، منها بشكل اساس غياب التمويل؛ وأيدي الإعلاميين والباحثين عن مسيرة نصري التي «تناتشت» أرشيفه المصوّر بعد رحيله، وضيّعته، صورة من هنا وأخرى من هناك، حتى لم يتبقّ إلا النزر القليل المنسوخ بشكل بدائي عن أساس لا تفقه العائلة أين أصبح. وحده طربوش نصري وعوداه من أصل خمسة تركها، تزيّن غرفة الجلوس؛ وتلك الزاوية الزجاجية المقفلة على «جفته» و«جربنديته» و«مطرته» و«الطقية» وميداليات «الداما»؛ تبدّد بعض القلق على ضياع حلقات إرث نصري شمس الدين.

يؤكد مصطفى نصر الدين شمس الدين «ان الكثير من الارشيف المصور لنصري لم نعد نعرف أين أصبح، كثر أتوا بعد وفاته واستعاروا الصور ليكتبوا عن والدي، لا أتذكر أن أحداً أخذ صورة وأعادها، حتى بات ألبومه شبه فارغ، ومجمل ما تبقى هي صور منقولة».

أروع صور نصري التي تحتاج إلى ترميم هي تلك التي التقطت له في رحلات الصيد في حقول جون وضواحيها، قرب «عين حيرون» حيث كان يطيب له «المرابطة» للصيد أو للإتكاء على زيتونة من كرم يزين «البيدر»؛ لحفظ نص أو سيناريو أو التدرّب على لحن رائع من ذلك الرصيد الذي وصل إلى حدود 1075 أغنية ومشاركته في 19 مسرحية وثلاثة أفلام: «بياع الخواتم»، «بنت الحارس»، و«سفر برلك»؛ كانت كفيلة في أن يترك بصمات صوته الجبليّ الهادر عذباً على الأغنية اللبنانية الشعبية التراثية بشكل عام والفلكلورية بشكل خاص.

45 تسجيلاً غير مذاع

ثمة معلومة «صارخة» يلقيها مصطفى شمس الدين، مفادها أن «ما بين 40 و45 تسجيلاً غنائياً لوالدي لم يذع بالمطلق حتى الآن، فضلاً عن نحو مئة تسجيل لغناء حيّ قدّم على المسرح أو في أحد الاستديوهات فقط لمرة واحدة ولم يذع ثانية، على نحو أغنية تفتا هندي». أما لماذا هذا الاجحاف والتكتّم بحق صاحب الأغنية الجبلية الحميمة بعد 34 من رحيله؟ يقول مصطفى: «عرضنا هذا الرصيد على بعض الجهات الممولة؛ وقد فوجئنا بأن هذه الجهات تريد أن يصبح لها حق التصرف المطلق بهذه الأغاني، حتى ربما في إذاعتها بأصوات غير صوت نصري؛ نعم، هناك من يسعى لمحاربة والدي حتى في قبره! ولم نجد أي جهة محلية على نحو الاذاعة اللبنانية مثلاُ برغم أوضاعها المادية الصعبة؛ لتقول أنا أتولى هذا الأمر في مقابل مردود مالي محدد يعود لريع إنشاء متحفه الذي نحلم به من سنوات طوال ويقف الموضوع المادي عقبة في ذلك. تمكنا حتى الآن من أن نحفظ أرشيفه المسجل بعيداً عن التلف؛ لكننا نعيش في قلق تام عليه؛ وجربنا مرة وسجلنا مع إحدى الشركات ألبوماً على CD تحت عنوان «تحية» قدمنا فيه أغنية لم تذع قبل رحيل نصري (راح الشهر) وحتى اليوم لم نتلقَ من الوعود المالية أو الارباح أي مردود؛ نخاف من استباحة هذه الثروة النادرة، تماماً مثلما يجري لأرشيف نصري الإذاعي والتلفزيوني الموزع هنا وهناك من دون إلقاء تحية».

ويضيف: «هناك أكثر من 100 أغنية هي من إنتاج والدي الخاص، أجريت بعض الإتصالات مع شركات وإذاعات، معظمهم يريد أن يدفع لاحقاً، وتبدأ المساومة وكأننا على بسطة خضار؛ هذا حق نحاول أن نحميه، ولذلك نعيش الانتظار على أمل أن تأتي شركة محترمة تقدر الفن وهذه الثروة المتروكة، وتقول نحن نأخذ هذا الأرشيف، ولنا كذا ولكم كذا؛ ليس الأمر مادياً فقط، بل نريد من يحمي حق والدنا الذي هو حقنا؛ هناك الكثير من أعمال والدي والعديد من الفنانين اللبنانيين، في الخارج أكثر منه هنا، لماذا؟ لأن أعماله كانت محمية هناك أكثر من هنا».

ثمة أمر يؤلم العائلة كذلك، «هو تجاهل الكثير من المراجع الإعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية لتاريخ نصري ورصيده والتعتيم عليه، حتى يوم ذكرى وفاته التي كانت على المسرح؛ خصوصاً هنا في لبنان؛ ويؤسفني القول أن هناك بعض المحطات والاذاعات العربية تذكر نصري وتقدم أعماله على نحو سوريا والأردن ودبي وبعض الدول العربية أكثر مما يقدم له هنا في لبنان».

ترك نصري بعد رحيله ثروة فنية، لكنه لم يترك رصيداً مادياً كافياً للعائلة يعيلها بعد غياب معيلها؛ ولأن الفنان غير محمي أو ضمون، فهكذا عائلته التي كان عليها أن تناضل من أجل الاستمرار؛ كان على مصطفى أن ينصرف إلى العمل؛ والمعصرة التي اشاد فيها بأغنيته لا تعطي المنتوج الذي يمكن الاعتماد عليه.

في حديث سابق لزوجته يسرى الداعوق قبل وفاتها بسنوات قليلة قالت: «كانوا الأولاد صغاراً يوم توفي والدهم، الفنان في لبنان غير مصان؛ وكذلك إنتاجه وأعماله الفنية، فكل ما قدمه على مدى ثلاثين سنة لا نستفيد منه بقرش واحد؛ فضلاً عن الصدمة التي تركها غيابه؛ فهو كان مرتبطاً بشكل وثيق بنا، وأوقات فراغه هي للعائلة، ولذلك كان في ساعات الفراغ سرعان ما ينتقل بنا إلى جون، يعطي من وقته للأولاد ووالدته التي توفيت قبله بستة أشهر، ولأبناء البلدة، إذ كان يشارك في أفراحهم وأتراحهم، فضلاً عن تفرغه للحقل والكروم، ولموسم قطاف الزيتون وعصره».

نصري شمس الدين

ولد نصر الدين مصطفى شمس الدين في بلدة جون في 27 حزيران 1927، من أسرة تعرف بعائلة «المشايخ»؛ وكان الوالدان يتمتعان بصوتين رائعين، خصوصاً الوالدة، ما أكسب أصغر أشقاء البنات الثلاث والأبناء الصبيان الستة نصري، هذا الصوت المميز، بعدما ساعدت الوالدة في صقل الموهبة، التي كان يطيب لها سماع ابنها وهو يدندن أغاني كارم محمود.

بعد مدرسة جون الابتدائية، التي تابع فيها نصري دراسته الأولى، انتقل إلى مدرسة المقاصد في صيدا. وفي سن السابعة عشرة، وقبل إتمام المرحلة الثانوية، انتقل إلى تدريس مادة اللغة العربية في مدرسة شبعا في قضاء حاصبيا، ثم في مدينة صور. وبعد حفلة غنائية اقامها أمام التلامذة عازفاً على العود الذي يرافق الصوت الصداح في العتابا والمواويل؛ في الثانوية الجعفرية في صور، تدخل المدير «بكل محبة» وخيّر نصري بين مهنة التدريس أو الغناء، وكان أن اختار نصري ما يرغب ويعشق، الفنّ والطرب.

ينتقل نصري إلى مصر ليعمل في شكرة «نحاس فيلم»، ثم إلى بلجيكا ليدرس الموسيقى ويعود إلى بيروت حاملاً دبلوماً في الموسيقى؛ ولأنه لم يوفق في المجال الذي يرغب، يعمل نصري موظفاً في مركز البريد في بيروت في نطاق الاتصالات الهاتفية. وتتدخل الصدفة بعد العام 1952، إذ يقرأ نصري إعلاناً في إحدى الصحف اللبنانية مفاده ان إذاعة «الشرق الأدنى» تبحث عن مواهب فنية شابة، فسارع إليها؛ ليقف ممتحناً أمام لجنة حكم كانت مؤلفة من: عاصي ومنصور الرحباني، عبد الغني شعبان، حليم الرومي وغيرهم، تقرر ضمه إلى الفريق الغنائي في الإذاعة التي أصبحت تعرف لاحقاً بإذاعة «لبنان الرسمية». ومن هناك انطلق نصري شمس الدين في مشواره الفني عندما أدى ثلاثة اسكتشات غنائية «مزراب العين» و«حلوة وأوتوموبيل» و«براد الجمعية»؛ ثم يطلق أغنيته الخاصة الأولى، «بحلّفك يا طير بالفرقة» وهي من ألحان المبدع فيلمون وهبي، الذي ارتبط به ارتباطاً وثيقاً في صداقة حميمة ورفقة مشاوير «صيد العصافير» إلى جانب إيلي شويري ووليم حسواني.

ومع فيروز شكل نصري عاموداً رابعاً في المسرح والفن الرحباني الذي انضم إليه عام 1961 و«انفرد» عنه في العام 1978، بعد مسرحية بترا وافتراق فيروز عن عاصي، لينطلق بأغان وألبومات منفردة توّجها في ألبوم «الطربوش» من تلحين ملحم بركات. وشارك نصري في تأليف وتلحين بعض أغانيه على نحو أغنية «ليلى دخل عيونها» ولحّن قصيدة «بعرسك جيت غنيلك قصيدة» التي غناها في عرس ابنته ألماسة وهي من كلمات مصطفى محمود.

تزوج نصري شمس الدين في العام 1956 من يسرى الداعوق وأنجب منها: مصطفى وألماسة (توأمان)، مي وماهر، ريما ولين (توأمان). وقبل توجهه إلى «سوريا حيث كان مقرراً إحياء حفلته الغنائية، أصبتُ بوعكة صحية، شعرت بوالدي وكأنه انهار، يعانقني يروح ويجيء في البيت، وما أن دخل إلى الحمام حتى سقط وشجّ رأسه، بعدها عبر عن رغبته في تأجيل الحفلة ليبقى إلى جانبي، فأخبرته بأنني صرت بحال جيدة ولديه ارتباطات لا يمكن إلغاؤها. بعدها تحدث عن الموت، إذ قال: زأشعر أنني سأموت قريباً»، استغربنا، وكان ما توقع، توفي كما والده نتيجة نزيف دماغي حاد». بحسب ابنته ريما التي تملك صوتاً بروعة صوت والدها وشهادته، بيد أنها توقفت عن ذلك بعد وفاته، «لأنه لم يكن يرغب أن أسلك هذه الدرب المليئة بالأشواك».

بعد وفاته حاول ابن عم نصري، عادل شمس الدين تأدية أغاني نصري في المناسبات من أجل ديمومتها، بيد أن هو الآخر عاجله الموت المفاجئ عام 2006 قبل أن يبلغ الخمسين.

ويبقى السؤال: إلى متى يحرم محبو ومعجبو صوت نصري شمس الدين من روائع مسجلة بصوته، بسبب بعض تجار الفن المتجاهلين للقيمة الكبيرة لارشيف نصري شمس الدين الذي شغل الدنيا بصوته وغنائه قبل أن يتوقف دماغه وهو يصدح إبداعاً على المسرح؟

ثمّة سؤال آخر يطرح نفسه في ظل هذا المطر المغدق من قبل وزارة الاتصالات وشركة «ليبان بوست» من الطوابع البريدية للسياسين وزوجاتهم وبعض المحظوظين، فيما عائلة نصري شمس الدين تنتظر منذ سنوات عديدة إصدار طابع يستحقه نصري شمس الدين تكريماً لكل عطائه وموهبته الصوتية والفنية النادرة.

ويشير نجله مصطفى «إلى أن العائلة تقدمت بواسطة محام معروف بطلب إلى وزارة الاتصالات منذ نحو ثلاث سنوات لتصحيح الغبن اللاحق بحقّه، خصوصاً بعد إصدار مجموعة بريدية تكريمية لمجموعة من الفنانين الذي يستحقون هذا التكريم ومنهم السيدة فيروز والفنانون الراحلون وديع الصافي وصباح ونبيه أبو الحسن وشوشو وزكي ناصيف وإيلي صنيفر وغيرهم، وقد وعدتنا الوزارة بتحقيق هذا الأمر، إسوة بغيره، وما زلنا على الوعد يا كمّون».

ويؤكد مصطفى نصري شمس الدين «أن العائلة وضعت أمام لجنة مختصة من الوزارة مجموعة من صور نصري وتم اختيار واحدة منها، وذهبنا منذ سنة ونصف السنة إلى الوزارة وجرى إطلاعنا على «بروفة» من صورتين له يعتمر طربوشه، واحدة ملونة وأخرى بالأسود والأبيض، وجرى اختيار الأولى، على أمل أن يتم الإصدار قريباً، ثم بدأنا نسمع بعض الحجج الواهية، ومنها انتظار موافقة وزارة المالية».